(ليست ردا على أحد ولكنها بيان لمعالم) فاتحة الكتاب تضمنت كل أقسام التوحيد؛ توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد القصد والطلب، وكل أصناف العبادات؛ عبادة الله بأفعاله، وعبادة الله بأفعالنا، مؤكدة حاجة الإنسان النسبي إلى المطلق، ولذلك سميت بأم الكتاب، والسبع المتاني.. وقد بدأت بالحمد باسم الله "رب العالمين"، لا حظوا هنا أن الله رب العالمين، وليس رب قوم أو طائفة أو قبيلة، حتى يكون متحيزا لفئة، أو منحازا لقوم، ومتحامل على آخرين، كما تحاول أن تصوره الذهنية الطقوسية البدائية، وأثنت على الله تعالى بالرحمة كصفة من صفات الجمال" الرحمن الرحيم" وقرنت ذلك بصفة أخرى من صفات الجلال"ملك يوم الدين"، مذكرة بأهمية اليوم الآخر، كيوم يكرس غريزة حب البقاء عند الخلائق، ويشيع العدل الإلهي، وذكرت صفتين من صفات علم السلوك، وهما العبادة "إياك نعبد" وتعني قوة الحب لله مع غاية الخضوع له، والاستعانة "وإياك نستعين" وتعني قوة الثقة بالله مع غاية الاعتماد عليه، وانتهت بالدعاء " اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم".. وهذا "الصراط المستقيم" هو تلك الوصايا الكبرى والقيم الثابتة والكونية، التي أنزلها الله تعالى، لتناسب الخلق والأمر، أي الفطرة والتشريع، حتى يسود العدل الذي على أساسه قامت السموات والأرض، وهي بهذه الصفة تمثل مشتركات إنسانية جامعة، بحيث إذا عرضت على العقول السليمة تلقتها بالقبول، وانتهت بالبراءة من أضداد الصراط المستقيم وهي"المغضوب عليهم ولا الضالين"، فمن هم المغضوب عليهم .. ومن هم الضالون؟!.. وهل هذه صفات أفعال متعدية، أم صفات أمم وأقوام لازمة؟!.. وهل هي مرتبطة بقصص قرآني عن أمم خالية، أم هي حديث عن أحكام شرعية في المخالف ثابتة وأبدية؟! بادئ ذي بدء ف"المغضوب عليهم" إذا ما اعتمدنا على آليات تأصيلية راشدة، من قبيل "أن العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب"..هي صفة أفعال ومعاني عامة، وليست صفة أمم وعقائد مخصوصة، وتعني في المحصلة العلمية عقلية الاعتداء بمجاوزة الحد، وممارسة الظلم، فكل من عصى الله على علم، ومارس البغي بإصرار، وتخلق بهذه الصفة وتحلى بمفرداتها فهو مغضوب عليه، سواء كان من السند أو الهند أو العرب أو العجم، ولا عبرة بالأمم والعقائد، ولا بأسباب النزول والسياقات، وقد تعلقت أسباب نزولها في القصص القرآني والمتن الروائي باليهود، لأن أحبارهم قد أدمنوا على ممارستها في عهد الرسالة، فحاول المفسرون أن يربطونها بعموم اليهود ربط اللازم بالملزوم، وهذا محال في عدل الله تعالى، لأن الله عز وجل قال: " ليسوا سواء، من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يومنون بالله واليوم الآخر، ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسارعون في الخيرات وأولائك من الصالحين" سورة آل عمران/112-113.. وقال أيضا: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابين من آمن بالله واليوم الأخر وعمل صالحا، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"..سورة البقرة/61 .. وقال: " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوء يحزى به، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مومن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا " سورة النساء/123.. جاء في تفسير القرطبي: "قال قتادة والسدي : تفاخر المؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أحق بالله منكم . وقال المؤمنون : نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على سائر الكتب ، فنزلت الآية.. فتأمل وتدبر! أما "الضالين" كما وردت في القرآن الكريم، فهي صفة ومنهج كذلك، لكنها بالتقصير ومخالفة الأمر، واقتفاء أثر الجهل، فكل من عبد الله على جهل، فهو من أهلها وأحق بها، وقد كانت سمة لكثير من الرهبان في عهد النبوة، حيث كان الجهل هو عدتهم في اعتقاداتهم الباطلة، في تأليه المسيح عليه السلام، أو ادعاء حلول اللاهوت في الناسوت، أو إعطاء كنائسهم سيفا رمزيا، وقياصرتهم سيفا ماديا يقطعون بهما الأوصال والرقاب.. ولذلك عابهم القرآن الكريم بقوله: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا، لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون" سورة التوبة/31 .. فهذه الصفة أيضا هي منهج وجنس اعتقادات وأفعال، فكل من تلبس بها استحق وزرها وخطاياها.. ولمزيد من التوضيح لمن إلتبس عليه الأمر، لكثرة تواتر التفسيرات التي تربط الأمر باليهود والنصارى، من خلال طغيان أسباب النزول والسياقات على جوانب المعاني والدلالات، أتساءل معه: هل ارتباط اليهود بالصهيونية والاحتلال، من خلال سياق احتلال فلسطين، يشمل كل اليهود في الماضي والحاضر والمستقبل، كلعنة أبدية تطاردهم إلى الأبد، أم هي صفة تلازم من تلبس بها، بالمشاركة في إيجادها أو الاستمرار في بقاءها، ولو كان من غير اليهود؟!.. وهل ظاهرة الاستعمار تشمل كل المسيحيين أجيالا وأجناسا، أم هي مرتبطة فقط بمن صنع مآسيها وويلاتها، انطلاقا من قوله تعالى:" ولا تزر وازرة وزر أخرى" سورة الإسراء/14؟!، وإذا ما حاولنا في عملية إنزياح عن المعاني والدلالات، وتوسيع دائرة أسباب النزول والسياقات، فيمكن أن نقول في قوله تعالى: "الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، والله عليم حكيم" سورة التوبة/97 بأنها تشمل كل العرب ممن سكنوا البادية، وتقتصر عليهم، وهذا حكم بما لا يطاق، فهي عند العقلاء تشمل كل من ابتعد عن مسالك التحضر، وامتلأ جوفه جهلا وجفاء، كان من العرب أو العجم.. وهكذا ترتبط السياقات بالمعاني.. ويمكن أن يرجع القارئ الكريم إلى تفسير التحرير والتنوير، الجزء الأول للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور الذي يؤكد فيه هذه المعاني السامية :"وليس يلزم اختصاص أول الوصفين باليهود والثاني بالنصارى، فإن في الأمم أمثالهم ... فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد أو عن تأويل بعيد جدا ، والضالون جنس للفرق التي أخطأت الدين عن سوء فهم وقلة إصغاء; وكلا الفريقين مذموم لأننا مأمورون باتباع سبيل الحق وصرف الجهد إلى إصابته ، واليهود من الفريق الأول والنصارى من الفريق الثاني". ففي المحصلة ارتبط "المغضوب عليهم" بالظلم، وارتبط "الضالون" بالجهل، والطامة الكبرى هي إذا إجتمعا معا في أمة من الأمم!.. ولا يخلوا حالنا اليوم من هاتين الصفتين من دون الأمم الأخرى، وهذا من مفارقة التاريخ ومكره.. فينبغي قبل إشارة الأصبع إلى الآخرين لابد من التأمل في حالنا، حتى لا نكون كمن يقرأ القرآن والقرآن يلعنه، فإذا قرأ فاتحة الكتاب وأتى على قوله تعالى في أخر آية: "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" كان هو أهلها وأحق بها!!!.. هذا هو الجمر يا أهل الرماد! إن القرآن هو كون مقروء.. وقد استوى القرآن الكريم على سوقه، وجاء في مجمله مستوعبا ومصححا لمسار تراكم الهدي الرسالي، وانفتح أفقه المعرفي على كل مراحل الرشد والارتقاء الانساني، فكلما ارتفع السقف المعرفي والعلمي عاليا، ينبغي مواكبة هذا الحراك بالاستيعاب والتجاوز، تجاوز ما ترهل وانطفأ جمره وصار رمادا من التفسيرات والتأويلات السالفة، والتي هي تدين وكسب بشري وليست دين، ولا تكتسب صفة المطلق، واستيعاب ما هو حقيقي وجديد في دورات لا متناهية، حتى يبعث الله الأرض ومن عليها. وضمن هذا الوعي نميز بين عقليتين؛ عقلية الرماد المحترق التي تعيد إنتاج ما سلف، وعقلية الجذوة التي تنتج الإنتاج، وتجدد معالم الدين، فالأولى هي عقلية لا قرائية تعتمد التقليد والمحاكاة، وترفع النسبي المحكوم بسياقاته الثقافية والمعرفية إلى مصاف المطلق، والثانية هي عقلية قرائية تجدد وتجتهد وتجعل حركة النسبي في كدح مستمر ولانهائي نحو المطلق. عقلية الرماد المحترق هي عقلية بدائية، تعتقد أنها تحتكر الحقيقة، وتحكمها نطرة شوفينية وعنصرية ضد الآخرين، وترسم للإله صورة الإله المتحيز، الشبيه بشيخ القبيلة، ولذلك ".. قالت اليهود نحن أبناء الله وأحباءه"سورة المائدة/18 وقالوا كذلك: " ليس علينا في الأميين من سبيل" آل عمران/75، وحكى عنهم القرآن الكريم قولهم: " وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى" سورة البقرة/111، واعتبر القرآن أن تلك مجرد أماني باطلة، وطلب منهم بأن يأتوا بحجة أو براهين على ذلك، ولم يغفل أن يصحح لهم هذه النظرة الشوفينية الإقصائية بقوله:" بلى، من أسلم وجهه لله وهو محسن، فله أجره عند ربه، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" سورة البقرة/112.. فنطاق رحمة الله وسعت كل شيء، فهي تشمل كل من أسلم وجهه لله وهو محسن، كائنا من كان، والإسلام هنا يعني الإسلام العام، إسلام الأنبياء نوح وإبراهيم ويعقوب وموسى وعيسى عليهم السلام، " لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" البقرة/136 ولا تعني الإسلام الخاص، وإلا سقط الخطاب القرآني في النقيض، فلا يعقل أن يعيب عليهم هذه النظرة الشوفينية العنصرية المنحازة والإقصائية، ثم يعيد إنتاجها بتغيير مواقعها، بحيث يصبح الإسلام بمعناه الخاص هو الممثل لها!.. ولقد تشبعت العقلية الإسلامية التراثية للأسف في بعض جوانبها، بمثل هذه العقلية الشوفينية العنصرية، من خلال تسرب الكثير من الإسرائليات في المتن الروائي، ونتج عنه العديد من التفسيرات والتأويلات الخاطئة، التي أدخلت العقل الإسلامي في متاهات التسابق على احتكار الحقيقة، وادعاء تمثيلية الفرقة الناجية، واستخدام ميكانيزم الإقصاء العقدي بشكل سيء، نتج عنه ترسانة من الأحكام التكفيرية والتبديعية، سوغت لكثير من الحروب، التي نجمت عنها آلام ومآسي كبيرة. إن النظرة الموضوعية في القرآن الكريم، ترسم صورة لعالم متعدد ومتكاثر ومختلف ومغاير ومتباين، في ألوانه ولغاته وثقافاته وعقائده ومصادر عيشه ونمط حياته، ولم تشأ مشيئة الله تعالى أن تجعله أمة واحدة، بل أمما وشعوبا، لكن مسارهم الحضاري وسعيهم العمراني يتكامل ولا يتماثل، يتكامل بالتعارف والتسامح والتعايش، ولا يتماثل بالظلم والاعتداء والإكراه والإقصاء.