عام بعد آخر تتقلَّص مساحة الروحانية والسكينة، التي طالما تميَّز بها شهر رمضان الفضيل ومنحته طابعًا مميزًا عن باقي شهور السنة، لتحلَّ محلَّها سلوكيات "كرنفالية"، يصبُّ جُلها في إطار "الاستهلاك الشرِه"، ولا فرق في ذلك بين "استهلاك الطعام" أو "استهلاك الدراما" أو "استهلاك فضائيات الوعظ والإفتاء"، فالكل ينصبُ شباكَه ويحشد كل المغريات والمشهِّيات كي لا يستطيع الفرد الفرار منها والاختلاء بنفسه لمناجاة ربه ولو حتى في أحلامه، فساعات النوم هي الأخرى تتقلص، أو تتحول من الليل إلى النهار، مما يجعل استحضار الأحلام صعبًا. هكذا تحوَّل الشهر الكريم إلى ما يشبه "كرنفالات الكريسماس" في الغرب، فالكل يتبارى في إظهار قدراتِه على الاستهلاك، في سباق جماعي يعكس "ثقافة القطيع" التي تشكل حجر الزاوية في منظومة الاستهلاك وما يرتبط بها من قِيم وعادات، ففي ظلّ هذه الثقافة يصبح الفرد مجرد "ورقة" تتقاذفها آلات البيع الجبَّارة للشركات العابرة للقارات ووكلائها في الدول النامية، فهذه الشركات لم تكتفِ بإشباع حاجات الإنسان في حدودها الطبيعية، بل حولت معظم أيام العام إلى "مناسبات" و"كرنفالات" يرتبط كلٌّ منها بسلوك استهلاكي خارج عن المألوف، فهذا مثلا "عيد الحب" وما يرتبط به من ورود وهدايا تتجاوز قيمتها مليارات الدولارات كل عام، وذلك "عيد رأس السنة" وله منظومة استهلاكية صارت أشبه بالطقوس المقدَّسة. قِيَم متغيرة وامتدَّ الأمر ليشمل قولبة بعض القيم الإيجابية، فرغم أن العطف على اليتيم والإحسان إليه سلوك إسلامي دائم ومستمرّ، فقد حوَّلته منظومة الاستهلاك إلى "يوم اليتيم" الذي يحتفل به في أجواء كرنفالية صاخبة، ثم يُسدل الستار على الأمر ويطوي النسيان هؤلاء الأيتام، في انتظار كرنفال العام المقبل، كذلك الأمر بالنسبة لبر الوالدين وطاعتهما حيث حولته "ثقافة الاستهلاك" و"سلوك القطيع" إلى يوم واحد في العام باسم "عيد الأم" لتصبح تلك القِيَم مجرد كرنفالات مرتبطة بميعاد محدَّد، وخالية من أي روحانية، رغم أنها في الأصل سلوك دائم ومتعة روحانية. وغياب الروحانية يرتبط أساسًا بكون الفرد في ظِلِّ تلك المنظومة مسلوب الإرادة، فجُل همه هو تقليد واتّباع ما يعتبره "سلوكًا عامًّا" أو "صرعة جديدة"، لأن ذلك -حسب ثقافة القطيع- هو معيار التحضر والرقي، ومن يخرج عنه أو يحاول اتخاذ طريق متمايز ينظر إليه باعتباره "متخلفًا"، فالقيم والمبادئ -وفقًا لذلك النموذج- ليست مُثُلًا عليا مجردة، بل أنها متغيرة ومتحوِّلة، وتتمثل فقط فيما يفعله "القطيع"، فذلك هو القيمة والمبدأ الذي لا يجوز الخروج عنه. صيدٌ ثمين ورغم أن "ثقافة الاستهلاك" غزتْ مجتمعاتِنا العربية والإسلامية منذ زمنٍ طويل، إلا أن الجانب الديني والروحاني ظلَّ في منأى عنها حتى سنوات قريبة، واقتصر الضَّرَر على بعض القشور التي ظهرت كالبثور على سطح بعض العبادات والروحانيات، مثل "الحج السياحي الفاخر" الذي يدفعُ أصحابه مبالغ ضخمة لأداء فريضة الحج في أجواء فندقية باذخة وفي وقت قياسي، وهو أمر لا يقدَحُ في شرعية أداء هؤلاء للفريضة بقدر ما يُثير علامات استفهام حول الأجواء الروحانية لتلك الشريعة المقدسة، كما تظهر هذه البثور في "أسواق الاستهلاك" التي تشهدها بعض الدول الإسلامية في مناسبات إسلامية مثل المولد النبوي وليلة النصف من شعبان وليلة الإسراء والمعراج. وبما أن رمضان يمثِّل الشعيرة الإسلامية الأطول وقتًا، ثلاثون يومًا متصلة يعقبها "يوم عيد" حولته "مافيا الاستهلاك" إلى ثلاثة أيام كاملة، فإنه يعد صيدًا ثمينًا لماكينات الاستهلاك الشرِه، والتي نجحت عبر عمل متراكم يمتد لسنوات طويلة في إحكام قبضتها على كل ما يتعلق بالشهر الكريم، حتى أن تلك الروح الاستهلاكية امتدَّت إلى جوانب جيدة ومحبَّذة شرعًا، مثل إطعام الفقراء وإخراج الصدقات وإقامة الليل والاعتكاف بالمساجد، حيث صبغتها بروح "كرنفالية" صاخبة، بمعنى أنها أصبحتْ متعلقةً بأيام ومواسم بعينها، وليست سلوكًا طبيعيًّا ممتدًّا في حياة أي مسلم، كما تنصّ على ذلك التعاليم والقِيَم الإسلامية. فقد بات إطعام الفقراء لدى الكثيرين شبه مقتصر على شهر رمضان، وكذلك الأمر بالنسبة لارتياد المساجد، حتى أن البعض يصلي العشاء في المنزل ثم ينطلق إلى المسجد للحاق بصلاة التراويح، التي باتت طقسًا كرنفاليًّا له سماته المميزة، مثل القرَّاء ذوي الأصوات العذبة وعيون المصلين الدامعة ووصلات الدعاء التي يمتدّ بعضها لنصف ساعة كاملة، وبالطبع ليس هناك مَن يحتجُّ على ذلك في حد ذاته، لكن خطورة الأمر تكمن في تحوُّله إلى سلوك كرنفالي خالٍ من الروحانية، بمعنى أن مفعوله ينتهي بمجرد الفراغ منه، كما هو حال كل المهرجانات والكرنفالات، إذ أنه بمجرد انتهاء وقتِها يعود الإنسان كما كان من قبل، في حين أن الشريعة تشدِّد على أن عبادات المسلم وسلوكياته هي خط متصل ومتوازن، وإذا لم يظهرْ لتلك العبادات تأثير في سلوكياته فلا طائل من ورائها. طريقُ العَوْدة وفي السنوات الأخيرة ومع ظهور الفضائيات الدينية دخلت هي الأخرى في هذا الكرنفال، حتى لا تترك المسلم فريسة لفضائيات الدراما والمنوعات، التي انتشرت كالورم السرطاني وباتت تقصر إنتاجها الجديد على رمضان فقط، ولذا فإن الفضائيات الدينية أخذت هي الأخرى تحشُد أفضل ما لديها من فقهاء ودعاة في خريطتها الرمضانية، لتعرضَ على مدار الساعة برامج وعظية ودعوية وفقهية وتاريخية، مما يرسِّخ وضعية الفرد كمتلقٍّ سلبي، يحشو عقله بالآلاف من المواعظ والأحكام الشرعية، في حين تمضي حياتُه في خط منفصل تمامًا، فنحن الآن نعرف أكثر من أجدادنا وآبائنا عن الشريعة وأحكامها، لكننا نعمل أقل بكثير مما كانوا يعملونه. ورغم أن الروح الاستهلاكية طَغَتْ على الكثير من روحانية رمضان إلا أن البعض ما زال يقاوِمُ ويسبح ضد التيار، محاولًا النجاة بنفسه من تلك الروح، ولعل من مظاهر تلك المقاومة الحملات التي ظهرت خلال هذا العام والعام الماضي لمقاطعة التليفزيون بشكلٍ تام في رمضان، وهي أمر جيد وقوبل بتجاوب معقول، كذلك هناك محاولات للحفاظ على الطفرة الإيمانية التي يعيشها البعض في رمضان كي تستمر طوال العام، وتصبح سلوكًا دائمًا وليس طقسًا كرنفاليًّا، فرمضان هو مدرسة سنويَّة لتخريج مسلمين أقوياء ولإعادة تأهيل الشاردين والتائبين.