ماذا فعل الخميني بالمؤسسة الدينية في إيران؟ وليس هناك فرد أو جماعة في إيران لم تتأثر بقيادته، بنحو من الأنحاء، سواء سلباً أو إيجاباً. لكن الروحانيين (رجال الدين) تأثروا قبل الجميع، قبل الجامعيين والعمال ورجال التعليم والنساء والفنانين والكُتّاب والعسكريين، وتغيّر مصيرهم بفعل النهضة التي قادها الخميني نفسه، وطرح أفكارها وتصوراتها في كتابيه "كشف الأسرار" و"الحكومة الإسلامية". واليوم، وبعد مرور أكثر من 35 سنة على تجربة نظام الجمهورية الإسلامية (الشيعية) في إيران يمكن الإجابة بكل وضوح عن هذا السؤال، وهو ماذا فعل الخميني بالمؤسسة الدينية، أو ما يُصطلح على تسميته في أدبيات الشيعة "الروحانية" الشيعية ؟ ماذا منح الإمام الخميني للروحانية الشيعية؟ بتأسيسه لنظرية ولاية الفقيه وتطبيقه لنظام الجمهورية الإسلامية (الشيعية) في إيران، يكون الإمام الخميني قد وضع أربع إمكانيات تحت تصرف الروحانيين (الملالي، أو أصحاب العمائم) الشيعة : 1/ امتيازات خاصة في الحكم وممارسة السلطة عن طريق منحهم العضوية الكاملة والحصرية في مجلس خبراء القيادة، والعضوية الفاعلة والمؤثرة في مجلس صيانة الدستور، والسلطة القضائية، والإدارة السياسية والمذهبية لقوى الأمن بجميع تلاوينها، وكذلك النيابة عن المرشد الأعلى للثورة في المحافظات والجامعات والقوات العسكرية. وأيضاً التواجد بقوة على جميع مستويات سن التشريعات ووضع القوانين، وإنزال السياسات واتخاذ القرارات. وقد اتخذت هذه الامتيازات الواسعة صفة الشرعية بدسترها في أسمى وثيقة في البلاد، التي وضعها مصممو الثورة الإسلامية بعيد إطاحتهم بالشاه. وأصبحت مجسدة ومهيكلة على أرض الواقع بفعل الإفادة من قوة الحكومة. 2/ استحواذ رجال الدين وأصحاب العمائم على مصادر الثروة في المجتمع الإيراني عن طريق المصادرات، وإسناد تسيير مؤسسات الدولة وشركاتها الكبرى إليهم وإلى أفراد عائلاتهم. والحصول على أعلى الدخول في القطاعات الحكومية والعمومية. والحصول على امتياز الاستثمار في الواردات والصادرات عن طريق العلاقات الخاصة. وربح جزء مهم من العملة الصعبة عن طريق الشركات التي تدار تحت إشرافهم أو تحت إشراف المقربين منهم. والحصول على جزء مهم جداً من الاعتمادات الموجهة إلى القطاعين الثقافي والتعليمي في إيران. 3/ إمكانية فرض طريقة حياتهم على المجتمع الإيراني بالاستناد على مداخيل النفط والقوى النافذة. وهي الأمنية التي لطالما حلمت بها الروحانية الشيعية لعقود طويلة. فاليوم الكلمة العليا تعود إليهم، وكلما أحسوا أن صوتهم غير مسموع وليس هو أعلى الأصوات توسلوا بالقوات العسكرية وشبه العسكرية لاستمالة عموم الشعب إلى جانبهم. 4/ التخلص من عبء طرق أبواب الناس لقراءة المدائح والمراثي قصد الحصول على بعض المال (رجال الدين البسطاء)، في مقابل لجوء الناس إليهم لتسديد الخُمس بهدف تطهير أموال من يعزم على السفر إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج (رجال الدين من الطبقات العليا). كان عدد الذين يؤدون الخُمُس كل سنة، بناء على المعتقدات الشيعية، إلى المرجعيات الدينية قليلا جداً، لذلك كان على الملالي أن يبقوا متعلقين بالناس وبمواضيعهم طمعاً فيما سيجودون به. ولهذا السبب كان يفسر مرتضى مطهرى التصاق رجال الدين بالعوام وإغراقهم في العامية. لذلك فقد ساهمت السلطة والثروة التي أكسبها النظام لهم، ليس فقط في الاستغناء عن الناس، بل أدت إلى تعلّق الناس بهم ومطاردة مواكبهم خلال تنقلاتهم في المحافظات طمعاً في كسب بضعة آلاف من التومانات (التومان هي العملة الرسمية المتداولة في إيران). ماذا سلب الخميني من الروحانية الشيعية؟ لكن في مقابل الأشياء التي منحها الخميني ونظريته في ولاية الفقيه للروحانيين (جميعهم بدون استثناء سواء من كان مع الخميني أو من كان ضده، وسواء من كان يؤمن بولاية الفقيه أو من كان يكفر بها ويعارضها)، هناك أشياء أخرى سلبها منهم : 1/ كانت الروحانية الشيعية على مدار التاريخ لا تؤمن بنظام أخلاقي وحقوقي معيّن، بل تعتقد أن نظامها الأخلاقي والقانوني الوحيد هو الشريعة، ولازالت كذلك. لكن منح السلطة المطلقة لجماعة لا تؤمن بحاكمية القانون ولا تتبع نظاماً أخلاقياً معيّناً عرّضها للوقوع في الفساد. ومن النادر جداً أن تجد روحانياً في الحكومة لم يستغل السلطة الممنوحة له لتحقيق مآربه الشخصية (من التدخل لفائدة الأبناء قصد اجتياز حاجز المباريات في الجامعات والمعاهد والوظائف إلى نزع الملكية من أراضي الدولة، ومن السفر إلى الخارج من دون داع فقط للحصول على العملة الصعبة إلى الاستفادة من القروض المجانية أو القليلة الفائدة، ومن شراء الأملاك المصادرة بأرخص الأسعار إلى السفر الترفيهي بتمويل من أموال الشعب، ومن الارتقاء في مدارج السلطة عن طريق إقصاء المنافسين إلى استغلال المال العام للأغراض الشخصية...) لأن الشريعة في عرف الشيعة وأدبياتها لا تشكل مانعاً من هذه الممارسات، طالما أن الإطار الإيديولوجي للشريعة في الفكر الخميني جعل الأموال العمومية في اختيار وتصرف الولي الفقيه ومن يمثله وينوب عنه ويخدم نظريته. إذ يستطيع هؤلاء صرف هذه الأموال حسب مشيئتهم. لأن الثروة عامل للوصول إلى السلطة، لذلك يجب أن تكون تحت تصرف الأوفياء للحكومة ولولاية الفقيه وللقائم مقام إمام الزمان بأي ثمن وبأية طريقة. 2/ بتمكينهم من التحكم في مفاصل الدولة دون استعداد أخلاقي وقانوني مسبق، يكون الإمام الخميني قد عرّض الثقة التي كسبها قسمٌ كبير من الروحانيين خلال سنوات طويلة إلى الخطر والزوال. لقد كان السواد الأعظم من رجال الدين الشيعة قبل قيام نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية معارضاً لنظرية ولاية الفقيه الخمينية لأنهم كانوا يدركون أنهم سيفقدون بهذه الطريقة ثقة الناس. لكنهم حينما تذوقوا حلاوة السلطة رحبت الغالبية العظمى منهم بنظرية ولاية الفقيه. لذلك فقد أذاقهم الخميني حلاوة السلطة وسلب منهم ثقة عموم الناس. لقد أحدثت الجمهورية الإسلامية خللا في علاقة الروحانيين بالمواطنين التي كانت تنبني بينهما على أساس أن رجل الدين هو الواعظ والخطيب والمفتي والمستشار. فقبل ثورة 1979م وتأسيس الجمهورية الإسلامية كان الروحانيون إلى جانب الجامعيين ورجال التعليم من الفئات التي تحظى بثقة عالية لدى الشعب، لكن بعد مرور بضع سنوات على تأسيس الجمهورية الإسلامية فقدوا هذه المكانة. وقد أظهرت استطلاعات الرأي التي أجرتها مراكز شبه مستقلة في أواخر عقد التسعينيات في إيران أن محبوبيتهم في انحدار. 3/ لقد حوّل الخميني المؤسسة الروحانية التي كانت في العصرين القاجاري والبهلوي مؤسسة شبه مدنية وتنعم إلى حد ما بالاستقلال (حيث كانت تتمتع باستقلال إداري ومؤسساتي، ولم تكن موارد الدولة من مواردها الأساسية)، حوّلها إلى جزء لا يتجزأ من الحكومة. وجاء علي خامنئي، مرشد الثورة الحالي، وأكمل المهمة التي كان قد بدأها الخميني ولم يستطع إكمالها بسبب ظروف الحرب الإيرانية العراقية. وباتت الروحانية والمؤسسات الدينية الأخرى في عهده قطعة لا تنفصل عن الحكومة من الناحيتين الإدارية والمؤسساتية. *باحث إيراني في علم الاجتماع. ** أستاذ اللغة الفارسية وباحث في الدراسات الإيرانية والمقارنة (كلية الآداب بالجديدة).