تمنحنا خاتمة سيرة وزير الدولة في الداخلية الراحل، إدريس البصري العديد من الدلالات، المفتوحة على أكثر من موطن للمرض، في بنياننا الاجتماعي ومضمونه. لنعد إلى بعض منها، فبالرغم من أن منفاه كان مخمليا، بشكل لا يخفى على زواره من الصحافيين المغاربة والأجانب، إلا أن كل الجهود التي بذلها الرجل الجريح، في كبريائه السلطوية، كانت تبدو، للمتعمق في سريرته، من خلال عينيه الكابيتين، احتضارا معنويا مديدا.. نعم، لقد عانى الرجل كثيرا ليظل واقفا على قدمين واهنتين، لم تكونا تقويان على حمل جسد نخره المرض والمهانة. "" كيف لا وقد قضى أكثر من ثلاثة عقود، ينسج خيوط مهامه الأمنية السرية والعلنية، في مملكة الحسن الثاني؟ كان يعرف أكثر من غيره أن أسباب " وجوده " أدق من شعرات ذيل حصان، لذلك اجتهد لتحويلها إلى حبال.. وقد تأتى له ذلك بجانب ملك أنهكته " خيانات " كبار معاونيه – انقلابا المذبوح و أوفقير – لذا أقفل دماغه كما قال، ذات مرة، وسلم مفتاحه للحسن الثاني.. إستراتيجية البصري للصعود إلى القمة، كانت متينة، إذ بناها على حدس اجتماعي راسخ، بأن انتزاع مكان شاسع تحت الشمس، في بلد اسمه المغرب، لن يتم بالنوايا الطيبة، غير أن حدسه الثاقب خذله في جزئية واحدة: لم يُؤَمِّن أيامه لما بعد الحسن الثاني، وفي ذلك كان هلاكه. هل تصدقون أن إدريس البصري، الذي كان يترك " كبار " الصحفيين والسياسيين المغاربة، والأجانب، ينتظرون في صالون بيته الفخم، للظفر ببضع دقائق من وقته الثمين، لم يجد أذنا واحدة للإنصات لأنَّاتِه، الأفدح، أن صحافيا، كان ضمن حاشيته وخدمه وحشمه، أقفل الخط في وجهه، حينما اتصل به، وعلَّق الصحافي على تصرفه " الشهم " ذاك بأن البصري " صدَّع ليه راسو ".. وحدث من قبل، بالتحديد بعد انصرام ثلاثة أشهر، على تولي محمد السادس الحكم، أن طَرَقَ البصري باب بيت صحافي آخر، كان بمثابة يده اليُمنى في دنيا الصحافة والصحافيين، جاءه، في ذلك الظرف النفسي الدقيق، باحثا عن كلمة طيبة، تخفف عنه آلام جراح العزل، غير أن الصحافي " الهمام " - ويا للؤم المغربي – صَفَقَ باب منزله في وجه ولي نعمته المخلوع. قال لي الزميل الذي وقف على هذه الواقعة، المؤسفة حقا: " البصري لم يتجرع أبدا هذا التنكر الذي قذفه في وجهه صحافي كان بمثابة " ربيب ديالو " بعدما كانت إحدى الصحف الحزبية العتيقة، قد لفظته شبه فقير معدم، لا يملك حتى جوربا يقي قدميه ملمس حذائه الخشن. ولَكُم أن تتخيلوا " الأشواط الإضافية " النفسية المضنية، التي قطعها إدريس البصري، ليطلب، وهو الملكي حتى النخاع، العون من صحافي ذو قناعات جمهورية، مثل على لمرابط، حيث طفق يستشيره في مَن يستقبل، أو لا يستقبل، في منفاه القسري بباريس، من الصحافيين المغاربة، مخافة أن يكون ضحية لإحدى المقالب المخزنية، وما أكثرها، التي أبدع هو في ابتكارها، أو ساهم في نفض غبار توالي الزمن عليها، بتشجيع من مولاه الحسن الثاني.. فيا لقسوة " دواير الزمان ". انتهى البصري بيولوجيا، فهل انتهت الثقافة السلطوية، التي منحها واحدا من أقوى ملامحها في تاريخ المغرب الحديث؟ أعلن اصطفافي إلى جانب المجيبين بالنفي، باعتبار أن ثمة شعبا ينتج، ثقافة الإتباع لا الإبداع، ولعل هذه " الحقيقة " الستاتيكية هي التي دفعت الملك الشاب الحسن الثاني، غداة توليه الحكم أوائل ستينيات القرن الماضي، إلى الرد على أستاذه في الرياضيات، السياسي اليساري الثاقب النظر، المهدي بنبركة: " المغاربة لن يفهموا أبدا كيف يسود الملك ولا يحكم " وذلك حينما طالب الأخير من الأول أن يكون دستور 5 نونبر 1962 ، الأول في تاريخ المغرب الحديث، مبنيا على فصل للسلط. فهم الحسن الثاني أن " الباب الذي ستأتي منه الريح " يتمثل في عناصر التحديث المجتمعي، ولو كانت في المظاهر، فأقفلها، حيث أمر، مثلا، بالعودة إلى " السلهام و البلغة " بل واستجلب الطربوش التركي، الذي أعدمه تقريبا السياسي المصلح ورجل الجيش الكبير، مصطفى أتاتورك في عقر داره، أي في آخر معقل للخلافة الإسلامية، تركيا، وأمر – أي الحسن الثاني – بارتداء هذه الخلطة التقليدية في المناسبات وخاصة الرسمية. هكذا تم القضاء على ما قد تكون مظاهر التحديث الاستعمارية، قد حقنته في النفوس والأذهان، وقد وجد دائما مَن ينفذ سياسته " المسحية " بدءا من اوفقير مرورا بالدليمي ووصولا إلى البصري.. لقد كانت التربة الاجتماعية للمغاربة، دائما حابل ب " الطاقات المناسبة ". غير أن القمة المخزنية شديدة المنزلقات، بحيث يكون السقوط ارتطاميا، تتحطم له النفوس والأجساد سريعا.. وهو ما يفسر كيف تحول إدريس البصري من أول " خديم للأعتاب الشريفة " إلى " معارض " يكيل لخصومه في السلطة السب والشتم، وصل إلى حد نعتهم ب " البراهش " و " البخوش ". يجب أن نعذر الرجل الجريح في كبريائه، كيف لا، وقد عاين كيف انفض من حوله كل أولئك الذين أخرجهم من عدم، وأصبحوا سياسيين متمرسين في.. اللؤم المغربي.