رابحة، طفلة تعيش في منطقة نائية بإقليم ميدلت، لكن طفولتها اغتصبت باسم التقاليد فصارت محرومة من اللعب أو التصرف كما تفعل باقي قريناتها في القبيلة.. بل أكثر من هذا، إنها مقيّدة بعدة أغلال ترغمها على التصرف كامرأة راشدة.. كل ذلك لأنها وقعت ضحية التقاليد والأعراف السائدة في هذه المنطقة، التي وضعت حدا لأحلامها وهي بعد طفلة صغيرة. قاصر مُعلّقة بين دار أختها الكائنة وسط قرية آيت حنيني (75 كلم عن مركز خنيفرة) ومنزل والديها الواقع فوق جبل خارج الدوار، تقيم رابحة (15 سنة) منذ قرابة عام، بعد أن غادرت عش الزوجية خاوية الوفاض، تماما كما دخلته. "حبي لخطيبي جعلني أغفل عن خطورة ما أقدم عليه والدي بتزويجي منه بالفاتحة فقط من دون عقد نكاح.. والنتيجة الآن أنني معلقة، فما أنا بمتزوجة ولا بمطلقة"، تقول رابحة التي كانت تحدثنا من وراء وشاح أخضر فضفاض لفت به رأسها وتلثمت بطرف منه، معبرة بأمازيغية صرفة عن حسرتها لما آل إليه حالها. فجأة تمج رابحة، التي كانت تقتعد أرضية صالة الجلوس بدار أختها، شفتيها وتحرك رأسها يمنة ويسرة قبل أن تدفنه وسط تنورتها البُنية، ثم تقول بأسى: "الآن لا مستقبل لدي.. فبعد أن حُرمت من التمتع بطفولتي ودخول حجرة الدرس، صرت اليوم محرومة أيضا من العيش كباقي النساء، فلا أستطيع أن أتزوج من شخص آخر لأني لم أُطلق من الأول بعد". تتوقف لحظة عن الكلام لترفع رأسها وتمسح الدموع عن عينيها ثم تضيف: "مصيري معلق برغبته (تقصد زوجها)، فإن أراد بي خيرا منحني الطلاق، وإلا فإنني سأبقى معلقة هكذا". وحول سؤال عن سبب افتراقها عن زوجها، لم تتردد رابحة في تحميل مسؤولية ما وقع إلى الطرف الآخر، الذي اتهمته بالتقصير والإخلال بواجبات وحقوق الزوجية.. كما اتهمته بالاستهتار وعدم القدرة على تحمل المسؤولية.. بالإضافة إلى تعاطيه الخمر والتدخين وغيرها من الأسباب التي جعلت العشرة بينهما تستحيل، على حد قولها. عواقب زواج قسري بأحد المقاهي الشعبية وسط الدوار، التقينا بعزيز، وهو شاب يبلغ من العمر 26 سنة. تحدث عن قصة تزويجه بقريبته رابحة، فقال إن والده هو الذي أرغمه على الزواج بتلك الفتاة بدعوى تثبيت أقدام ابنه في القبيلة، بالرغم من أن عزيز كان مستهترا ولا يبدي أي استعداد لتحمل المسؤولية. يقول عزيز، وهو ينفث دخان سيجارته في الهواء، إنه كانت تربطه علاقة عاطفية بقريبته رابحة لمدة طويلة، لكنه لم يكن يفكر في الارتباط بها يوما، غير أن الآباء كان لهم قرار آخر، قضى بالتعجيل بتزويجهما رغما عن إرادة عزيز. "مشينا عند القاضي باش يزوّجنا ولكن ماقبلش حيث البنت باقا صغيرة (14 سنة)، وملي رجعنا للدار عيّطو على الفقيه وبعض الجيران وزوّجونا بالفاتحة.."، يحكي عزيز بدارجة ممزوجة بالأمازيغية، وهو يصب جام غضبه على أبيه وصهره اللذين زوجاه بهذا الشكل المخالف للقانون، حسب تعبيره. وعن تفاصيل مراسيم هذا الزواج التقليدي، يحكي أن صهره ووالده أحضرا فقيه مسجد القبيلة إلى البيت، ودعيا بعض الجيران للحضور كشهود.. ووضعوا بعض القطع النقدية وبعض الثمر والفاكية بمثابة الصداق في طبق، ثم شرع الفقيه يقرأ آيات قرآنية ويصلي على النبي (ص)، قبل أن يختتم المجلس بقراءة الفاتحة إيذانا بشرعية دخول العريس على عروسه. كان عزيز غير مقتنع بهذا الزواج مادام القانون لا يقره، لكن إرادة والده بتزويجه بأية وسيلة كانت أقوى.. يوضح عزيز ذلك فيقول: "أنا مكنتش باغي نتزوج بهاديك الطريقة.. ولكن بزّزوها عليا وملقيت ماندير". هذا الزواج القسري، حسب عزيز، لم يدم سوى 4 أشهر فقط حتى بدأت المشاكل تدب بين الزوج، لتنتهي العشرة بينهما في الأخير بمغادرة العروس لبيت زوجها، حاملة فوق رأسها نفس "الكمّوسة" التي أتت بها في اليوم الأول. نقلنا إلى الشاب عزيز اتهامات رابحة التي تُحمله وحده مسؤولية وقوع الخلاف بينهما، لكن الشاب رفض الإقرار بذلك متشبثا بالقول إن سبب محنة رابحة ليس سوى خِفّتها، موضحا أنها كانت تتصرف بصبيانية ولم تكن تستقر على حال.. ولم يكد يكمل كلامه حتى ارتفع صوت أذان صلاة المغرب، فاندفع عزيز رافعا سبابته اليمنى في الهواء قائلا: "على قولة الله أكبر"، ليؤكد أنه صادق في ما قاله. وأضاف عزيز، الذي يعمل مُياوما في أشغال البناء، أنه كان يوفر لزوجته كل متطلبات الحياة الضرورية، مشيرا إلى أنها غادرت بيت الزوجية بإرادتها ولأسباب واهية، على حد قوله. خلال حديثنا مع عزيز، لمسنا من كلامه أنه يُكنّ لرابحة كرها كبيرا، إلى درجة أنه يتوعدها بالانتقام منها بتركها معلقة بدون طلاق، وفوق ذلك كله لم يُخف أنه لن يخسر شيئا.. إذ سيحمل حقيبته فوق ظهره ويرحل إلى المدينة. ولا ينوي عزيز -حسب أقواله- أن يتقدم لأهل الفتاة طالبا إرجاعها، لأن رجولته تمنعه من إذلال نفسه بهذا الشكل، وفي المقابل يصرّ على أن رابحة هي من يجب أن تعتذر إليه إن أرادت أن يعيدها إلى بيته. ظاهرة مستفحلة ليست رابحة وحدها من يتخبط في مثل هذا المشكل. فبدوار آيت حنيني توجد 3 فتيات قاصرات أرغمن على الزواج، وهن اليوم لسن أكثر حظا من رابحة. (ف)، فتاة في السادسة عشرة من عمرها، زوّجها والدها هي الأخرى بالفاتحة من شاب يكبرها ب8 سنوات. وإن كانت وضعية (ف) تختلف عن مثيلتها رابحة، فإن القاسم المشترك بينهما هو وقوعهما ضحيتين للتقاليد والأعراف. فمنذ عام و(ف) مرتبطة بزوجها عن طريق رباط تقليدي لا يحميها ولا يوفر لها أية حقوق، وهي اليوم حامل في شهرها الثالث، وهو ما سيعقّد تبعات هذا الزواج غير الموثق. وحسب أحد معارف (ف)، فإنها تعيش الويلات مع عائلة زوجها، الذي يُغيبه العمل عنها لأكثر من شهر، لكنها مضطرة إلى أن تتحمل كل شيء حتى لا تتعرض للطرد فتضيع حقوقها... بدورها، وجدت (م) نفسها مجردة من كل حقوقها بعدما تم طردها من بيت الزوجية الذي دخلته قبل أن تستكمل السن القانوني للزواج. يروي مصدر مقرب من عائلتها أن (م) تم تزويجها للمرة الثانية عن طريق الفاتحة حتى قبل أن تحصل على الطلاق من الزوج الأول. ويضيف المصدر نفسه أن مشكلة (م) تعقدت بعدما أنجبت من زوجها الثاني، حيث اضطر هذا الأخير إلى استجداء الزوج الأول من أجل توثيق عقد زواجه بها، وبالتالي الحصول على الطلاق.. ولذلك من أجل أن يتمكن من تحرير عقد نكاحه ويسجل ابنه في الحالة المدنية. وبحثا عن المزيد من الحالات، تم إرشادنا إلى جماعة اغبالة، وهي عبارة عن فيلاج ناء يقع بين جبال الأطلس المتوسط. زيارة المحكمة الابتدائية بهذه الجماعة كانت كافية للتأكد مما يروج عن هذه المنطقة: صفوف كبيرة من الرجال والأولاد وبنات أغلبهن قاصرات، كانوا في انتظار دورهم للعرض على قاضي الأسرة. علي، شاب من قرية أومزا في الثلاثينات من عمره، التقينا به في باحة المحكمة وكان مرفوقا بأبيه ووالد خطيبته التي لا يشير صغر جسدها إلى أهليتها للزواج. يقول علي بصوت خفيض وهو يرتب رزمة من الأوراق في ملف أصفر: "هي فعلا لم تبلغ بعد السن القانوني للزواج، لكنني سأحصل على موافقة القاضي..". كيف؟ سألته مندهشا، فأجاب مقرنا سبابته بإبهامه، في إشارة إلى أنه سيستخدم المال ليصل إلى هدفه. صمت قليلا ثم استطرد قائلا: "هادشي جاري به العمل.. مكاين غير الرشوة". وحول سؤال عن سبب استعجال علي الزواج بهذه الطريقة، أجاب قائلا: "لا أستطيع أن أصبر عامين لكي أتزوج، وحتى إذا لم يأذن لي القاضي فإنني سأتزوجها بالفاتحة إلى حين بلوغها السن القانوني". زواج الفاتحة ينتشر هذا النوع من الزواج بين شريحة واسعة من المواطنين، خاصة في المناطق الجبلية كجبال الأطلس والريف، لأسباب متعددة. ويكتفي أغلب هؤلاء بزواج الفاتحة لإشهار زواجهم، وتمكين الزوجين من العيش تحت سقف واحد دون حرج أمام أهل القرية والأقرباء. يقول فقيه مسجد دوار آيت حنيني، إن هناك من الناس من لا يرغب في تحرير عقد نكاح، فيكتفي فقط بزواج الفاتحة لإعلان زواجه. ويضيف أن هذا النوع من الزواج يعادل تحرير عقد رسمي، وإن كان فقط رمزيا وغير موثق. وحول الطريقة التي يتم بها، قال المصدر نفسه إن الأمر لا يقتضي سوى اتفاق والدي المرشحين للزواج على تزويجهما، فيحضر الفقيه لكي "يقطع الكلام"، أي يعطي لهذا الزواج شرعية دينية، حيث يبدأ بالصلاة على النبي عشر مرات، ويتلو بعض الآيات من سورة النساء، ثم يختم بقراءة الفاتحة، إذاك يصبح حلالا على العريس الدخول على عروسه. لكن مصدرا من الرابطة المحمدية للعلماء، طلب عدم الكشف عن اسمه، يرى أن زواج الفاتحة صار متجاوزا في الزمن الحاضر، ذلك "لأن مصالح العباد تضيع إذا لم يتم توثيقها، وعواقب هذا النوع من الزواج وخيمة، ومن شأنها أن تضر بمصالح الزوجين، وبالتالي يجب تجنبه". وبغض النظر عن المناطق القروية والنائية، تشير بعض المصادر إلى أن هذا الشكل من الزواج ينتشر أيضا في أوساط الجنود، والسبب هو تفادي انتظار موافقة رؤسائهم العسكريين على زواجهم. إذ يجبر الجنود المغاربة، قانونيا، على تقديم موافقة موقعة من طرف رؤسائهم قبل عقد قرانهم، وقد تطول مدة انتظار هذه الموافقة على امتداد سنوات. كما قد يكون تعدد الزوجات سببا آخر وراء اللجوء إلى زواج الفاتحة، حسب مصادر أخرى، حيث يلجأ بعض الرجال إلى زواج الفاتحة لأنهم يعرفون أن قاضي الأسرة لن يرخص لهم بالزواج من امرأتين أو أكثر. ووعيا منه بخطورة عواقب هذه الظاهرة المنتشرة على الخصوص في المناطق النائية من البلاد، قرر المغرب منذ سنة 2004 العمل على توثيق عقود الزواج لفائدة الزيجات التي عقدت قرانها بالفاتحة. وشمل هذا البرنامج التوعوي، الذي تم تمديده 5 سنوات أخرى، إجراء حملات تحسيسية في العديد من البوادي والقرى النائية، وذلك من أجل تحفيز المواطنين على توثيق عقود زواجهم، وتسوية أوضاع الأطفال حماية لحقوقهم وضمانها، من نفقة وحضانة وإرث. أكثر من 33 ألف حالة سجلت السنة الماضية كشف تقرير حقوقي مغربي النقاب عن ارتفاع نسبة زواج الفتيات دون سن الخامسة عشرة، معتبرا أن زواج القاصرات في المغرب ارتفع بأكثر من 10 في المائة، حيث أصبح يسجل أرقاما مخيفة وصلت إلى 33253 حالة سنة 2009، مقابل 30685 حالة سجلت سنة 2008. وأوضح التقرير، الذي أصدرته الرابطة الديمقراطية لحقوق المرأة في المغرب، أن عدد تراخيص الزواج الصادرة عن وزارة العدل ومحاكم الأسرة المغربية للسماح بزواج القاصر سجلت انخفاضا ملحوظا بين سنتي 2006 و2007 بنسبة 7.16 في المائة في الرباط، و14.23 في المائة في المحمدية، في الوقت الذي ارتفع فيه عدد الطلبات من 30312 سنة 2006، إلى 38710 سنة 2007، وارتفعت نسبة القبول فيها إلى 86.79 في المائة، مما أصبح يثير قلقا لدى بعض الفعاليات المهتمة بحقوق المرأة. وحسب التقرير، فإن سنة 2007 جرى فيها تزويج 159 فتاة في سن 14 عاما، و1862 في سن 15 عاما، الأمر الذي يشير إلى غياب موقف موحد من تحديد حد أدنى لسن زواج القاصر بالمغرب. وتساءلت فوزية عسولي، رئيسة الرابطة الديمقراطية لحقوق المرأة بالمغرب، في اتصال هاتفي مع "أخبار اليوم" عن أهمية تحديد سن الزواج في مدونة الأسرة في ظل ارتفاع ظاهرة زواج القاصرات سنة بعد أخرى. وكانت مدونة الأحوال الشخصية (قبل أن يتغير اسمها وتتحول إلى مدونة الأسرة) تحدد سن الزواج بالنسبة إلى الإناث في 15 سنة، وبالنسبة إلى الذكور في 18 سنة. لكن مدونة الأسرة الجديدة جاءت لتحدد في المادة 19 سن الزواج بالنسبة إلى الفتى والفتاة معا في سن 18 سنة، مع استثناءات تذكرها المادة 20، تجيز لقاضي الأسرة أن يقبل بزواج الفتى والفتاة دون سن 18 سنة بقرار مبرر ومعلل بعد الاستماع إلى والدي القاصر، والاستعانة بخبرة طبية أو إجراء بحث اجتماعي في حالة استدعت الضرورة ذلك. لكن عسولي ترى أن هذه الاستثناءات لا تراعي فيها سلطة القاضي التقديرية مصلحة القاصر، حيث تتم الموافقة على تزويج القاصرين في الغالب دون إجراء خبرة طبية أو بحث اجتماعي، كما تنص على ذلك المادة 20 من المدونة. وقالت إن عدم التقيد بالقانون جعل من الاستثناء قاعدة، حيث تفوق نسبة الطلبات المقبولة لتزويج القاصرات نسبة الطلبات المرفوضة (91 مقابل 9 في المائة). ولفتت رئيسة الرابطة الانتباه إلى أن هذه الأرقام نسبية نظرا للجوء بعض الزيجات إلى الاكتفاء بزواج الفاتحة. وأشارت إلى "أن حملة توثيق عقود الزواج لن تنفع في القضاء على ظاهرة زواج القاصرات بدون عقود بل ستساهم في تشجيعها"، وأوضحت أن الدولة لو تعبأت خلال هذه السنوات لتقريب القضاة من المواطنين القاطنين في المناطق النائية، لما بقيت هذه المعضلة مستمرة. وتقترح عسولي، للقضاء على هذه المشكلة الاجتماعية، العمل على تطبيق القانون وتوعية وتحسيس الناس بخطورة الظاهرة، مع التسهيل في توثيق الزواج بتقريب المصالح الإدارية من المواطنين، وكذا فرض حماية القاصرات وحقهن في التمدرس. وطالبت عسولي وزارة العدل بوضع معايير محددة لمنح الإذن بزواج الفتاة القاصر، وذلك بتحديد سن أدنى، ومراعاة تقارب السن بين الزوجين، مع إجبارية إجراء الخبرة والبحث الاجتماعي، وتوحيد العمل القضائي، حتى يصبح زواج القاصر بالفعل استثناء بجميع المقاييس في سبيل القضاء عليه، مثلما طالبت باتخاذ إجراءات زجرية في حق الولي الذي يثبت ضده أنه زوج من يتولى أمرها قبل بلوغها السن القانونية دون اللجوء إلى طلب إذن المحكمة، بغض النظر عن قبول أو رفض طلب إثبات الزوجية، الذي يتقدم به الزوجان فيما بعد. عن جريدة "أخبار اليوم" (أبريل 2010)