شن الكاتب الأول السابق لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والوزير السابق، محمد اليازغي، هجوما قويا على رئيس الحكومة الحالية عبد الإله بنكيران، بدعوى أن هذا الأخير عطل مسار تطبيق الملكية البرلمانية، ومسلسل الانتقال الديمقراطي الذي طال أمده، بتعبير اليازغي. وبالرغم من أن هذا المقال لا يرمي إلى الدفاع عن بنكيران، الذي ربما لم يترك أحدا على الحياد، إلا أن المصادفة وحدها لا يمكن أن يبنى عليها موقف سياسي عام من الحكومة الحالية. وهذا أول خروج سياسي وإعلامي للمسؤول الاتحادي السابق منذ فترة، والذي كنا نود أن يكون أكثر نضوجا في مقاربة المشكلات السياسية التي يعيشها المغرب في الفترة الراهنة، وأن يضع تجربة حزب الاتحاد الاشتراكي في السلطة لسنوات طوال على مائدة النقد الذاتي، بدل أن يختار نفس اللغة التي بات يتكلمها الجميع اليوم. فالمفارقة أن المغرب منذ مرحلة الربيع العربي نجح في وضع دستور جديد وعبور الاضطرابات بكلفة أيسر، لكنه في نفس الوقت دخل أخطر أنواع الشعبوية في السياسة في تاريخه المعاصر. هناك فئة من المغاربة، أنا واحد منها، لا تستسيغ أن ينخرط جزء من المعارضة الحالية في جلد الحكومة بطريقة عشوائية، بينما هي تجر وراءها أذيال الخيبة في تدبير الشأن العام في المراحل السابقة. والمعادلة بسيطة: حكومة عبد الإله بنكيران ورثت تركة ثقيلة نتيجة التراكم القديم، بمثل ما كانت حكومة التناوب التوافقي برئاسة عبد الرحمان اليوسفي، التي كان محمد اليازغي واحدا من طاقمها، تقول بأنها ورثت نفس التركة عن التراكم السابق. أين المشكلة، إذن؟. توجد المشكلة حيثما توجد المعارضة. وبينما نهتم في خطابنا اليومي بالتراكم الذي تخلفه الحكومات بسبب سوء التدبير، نغفل عن ذلك التراكم الذي تخلفه المعارضة السياسية، والذي بات دورها يتمثل في إعادة إنتاج نفس البلاغة التقليدية المتعارف عليها بين الجميع. فمعارضة اليوم هي حكومات الأمس، كما أن حكومة اليوم هي معارضة الغد، والخطاب السياسي واحد بينها جميعا. أليست معارضة حزب الاتحاد الاشتراكي اليوم شبيهة بمعارضة حكومته بالأمس، حينما كان اليازغي نفسه يقول بأنها لا تفهم "التحولات الكبرى" التي ينخرط فيها المغرب؟ ألا يتكلم بنكيران اليوم بنفس اللغة التي كان يتكلمها اليازغي، مع إضافة بعض التوابل التي تطبع كل شخصية عن غيرها في مضمار النطاق النفسي والثقافي؟. لقد جاء حزب الاتحاد الاشتراكي إلى السلطة في نهاية التسعينيات من القرن الماضي باسم الانتقال الديمقراطي، الانتقال الذي جعله إنجيلا مقدسا له منذ المؤتمر الاستثنائي في عام المسيرة الخضراء. وقد دامت حكومة التناوب خمس سنوات برئاسة اليوسفي، لكن حزب الاتحاد الاشتراكي لم يخرج من الحكومة بخروج اليوسفي، وظل جزء من السلطة مع حكومتي ادريس جطو وعباس الفاسي، بيد أن الحزب فضل أن يعيش بخطاب مزدوج: خطاب الهجاء لمرحلة التناوب التوافقي والتبني السطحي للمحاضرة الشهيرة لليوسفي في بروكسيل، وخطاب المهادنة للمرحلة التي تلتها، بعد أن لم يعد "التناوب" هو المصطلح السياسي المتداول في توصيف تجربة الحكم التالية، وحل محله مصطلح"المنهجية الديمقراطية"، الذي سرعان ما تم تجاوزه هو الآخر. واليوم، فإن انتقادات محمد اليازغي تستبطن انتقادا محايثا لتجربة حزب الاتحاد الاشتراكي في السلطة. فإذا كان الحزب، الذي حمل لواء النضال الديمقراطي طيلة عقود، وجاء إلى الحكم بمشروعية التناوب الذي يؤسس للانتقال الديمقراطي السلس، قد فشل طيلة أزيد من عقد من الزمن في إنجاح الانتقال الديمقراطي، فلماذا يصر على أن تنجح حكومة بنكيران في إنجاح هذا الانتقال في ظرف ثلاث سنوات فقط؟، هذا مع العلم أن بنكيران لم يأت إلى السلطة باسم هذا الشعار، وإنما باسم الاستقرار السياسي، وعلى أساس أن الانتقال الديمقراطي في المغرب ورش قد تم إنجازه، لأن تصدر حزبه لنتائج الانتخابات السابقة برهان عليه. أتصور أن حزب الاتحاد الاشتراكي قد أفلت من يده، فيما لو كان الانتقال الديمقراطي فعلا يشكل هاجسا لديه، فرصة تاريخية بعدم وضع يده في يد حزب العدالة والتنمية أثناء مفاوضات تشكيل الحكومة الحالية. فقد قبل بأن يقود حكومة التناوب التوافقي دفاعا عن الانتقال الديمقراطي، بينما لم تكن لتلك التجربة سوى ضمانات سياسية من الملك الراحل، في حين أن مشاركة الحزب في الحكومة الحالية ربما كانت ستأخذ لونا مغايرا، في ظل وجود ضمانات سياسية ودستورية معا. من أجل ذلك، فإن المعارضة التي تتصرف وكأن المغاربة بدون ذاكرة، تتصرف وكأنها بدون تاريخ.