يحاول بعض اللادينين تبرير التنكر للدين بدعوى عدم استناد مسألة الإيمان بالله إلى أدلة عقلية تستطيع إقناع عقولهم" العبقرية ". فما الإيمان عند زعمهم إلا خرافات وخزعبلات وأساطير الأولين تجاوزها العقل البشري. أما الإلحاد فهو نتيجة طبيعية سيقود إليها العقل متى تحرر من كهنوت الدين وسطوة التقاليد. الحق عكس ما يزعمون تماما. الإلحاد هو ما لا سند له من العقل، وخاصة في بلاد المسلمين التي لم ينشأ فيها الإلحاد، وإنما نقله إليها بعض تجار القيم، كما تنقل البضائع الفاسدة عن طريق التهريب. نقلوه من الغرب دون أن يعملوا عقولهم فيما ينقلون، فكونه "صنع في الصين" أعني في "الغرب"، أكسبه (في نظرهم) حصانة ضد النقد وضد استعمال العقل.بصفتي مؤمنا بالله أرى أن المشكلة ليست في عدم وجود الأدلة ولا في ضعفها. ولكن المشكلة في عقول وقلوب هؤلاء الناس. إن الإيمان بالله اقتناع وليس اتباع. لذلك ذهبت بعض مدارس الإسلام الفكرية إلى عدم صحة إيمان المقلد، لأنهم يرون أن الإيمان الصحيح لا بد أن يبنى على الأدلة العقلية التي يطمئن إليها القلب، إن لم يكن ذلك تفصيليا، فإجماليا على الأقل. ومعنى هذا أن الذي يؤمن فقط لأن الناس مؤمنون، أو لأن والديه مؤمنان لا يقبل الله إيمانه، ما دام قادرا على النظر والتمحيص بنفسه. لقد عاب القرآن في الجهة المقابلة على الذين اختاروا الشرك "فقط" لأنهم ورثوه عن آبائهم وأجدادهم، دون أن يعرضوا هذا الموروث على العقل فقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ).البقرة(170) فنحن لسنا مؤمنين "فقط" لأننا ولدنا مؤمنين، أو لأن الجغرافيا حتمت علينا ذلك. نعم قد يكون المكان والموروث قربا إلينا الوصول إلى الحقيقة التي هي الإيمان. ولكن ذلك لا ينفي أننا وبعد بلوغ مرحلة النضج اخترنا الإيمان والإسلام عن اقتناع تام. فبعد النظر والتمحيص واستعمال العقل، اقتنعت بأن الله موجود، واقتنعت بأن محمدا رسول الله، وبأن القرآن كلام الله. قد لا يستطيع كل مسلم التعبير عن الأدلة العقلية التي بنى عليها إيمانه، وتلك مسألة أخرى. فليس كل من أحس بشيء يستطيع التعبير عنه. وليس الكلام هو الوسيلة الوحيدة التي يعبر بها المسلم عن هذا الإيمان. إلا أن أيمانه هذا بالطبع لا بد مبني على الأدلة العقلية التي جعلته يطمئن لاختياره، والتي لا يقبل الله إيمانه إلا بها. و كون المسلم لا يسوق دائما أدلة عقلية على إيمانه لا يعني البتة أنه ليست له أدلة، أو أن أدلته ضعيفة. وليس مطلوبا منه أصلا أن يقدم البرهان العقلي على إيمانه لبشر مثله، لا يملكون له ضرا ولا نفعا. المؤمن يرى أن ربه الذي آمن به هو وحده من له الحق في أن يطلب الأدلة على صدق الإيمان. وهذه الأدلة لن تكون بالطبع جدالا ولا مراءا لا يسمن ولا يغني من جوع، وإنما هي أعمال وتضحيات يتسابق فيها أهل الإيمان لإرضاء ربهم. أما من أراد أن يمتهن الجدال والمراء، فمصير المتشدقين في الكلام معلوم. إن فصاحة اللسان والتمكن من أساليب الجدال لن يغيرا من حقيقة الشخص شيئا، وإذا هوى بالإنسان إيمانه لن يصعد به لسانه. ومن رأى قيمته في كلمات يقولها أو أسطر يكتبها بعيدا عن علاقته بالله فقد ضل السبيل. قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۖ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) الحج ( 8-9 ) ليس معنى هذا أن الإسلام ضد الحوار والنقاش البناء واستعمال العقل في تمحيص الامور. فقد أمر القرآن باستعمال العقل في إبطال دعاوى الشرك. فهذا إبراهيم نبي الله يستخدم العقل والمنطق ليبين لقومه أن ما يعبدونه من دون الله لا يستحق أن يعبد. فبعدما حطم الأصنام سأله قومه: (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ)؟ الأنبياء( 62-66). وقد تكرر هذا الأسلوب في القرآن الكريم مرارا مع إبراهيم ومع غيره من الأنبياء، أعني أسلوب استعمال العقل في الإستدلال على قضايا الإيمان. وفي هذا السياق نجد أن القرآن قد استخدم ألفاظا وجملا متعددة يستحث بها العقل البشري على النظر والاعتبار في ما بث الله في الكون من آيات منظورات، و فيما أنزل على رسله من آيات مقروءات، من أمثال قوله تعالى (إن كنتم تعقلون..أفلا ينظرون... قل انظروا... ويتفكرون في خلق السماوات والأرض...قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين...فاعتبروا يا أولي الأبصار...) وغير هذا كثير في القرآن الكريم. مما يدل على أن الإيمان ليس تقليدا ولا جمود ا، وإنما هو نتيجة للنظر والتمحيص وإعمال الفكر والعقل. لكن يبقى السؤال مطرحا، إذا كان الإيمان نتيجة حتمية لإعمال العقل والفكر، فما بال هذه الأعداد الغفيرة من الناس لم تهتد إلى الإيمان بعقولها؟ هل عقول غير المؤمنين ناقصة؟ أم أن حجج الإيمان واهية؟ ليس هذا ولا ذاك في الحقيقة. إن الإيمان وإن كان نتيجة حتمية لإعمال العقل والفكر، إلا أنه أيضا عطية من الله، وهو كذلك ابتلاء واختبار، عليه علق الله الفوز بالجنة والنجاة من النار. وقد شاءت إرادة الله أن يشق للإنسان طريقين، وأن يهديه النجدين، وأن يترك له حرية الإختيار إما شاكرا وإما كفورا. (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ) يونس(99) (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) الشعراء(4) . لكن الله كرم هذا الإنسان وأراد منه أن يأتيه طائعا غير مكره ، فأقبل على الله المؤمنون بمحض إرادتهم، وأعرض عنه الكافرون بمحض إرادتهم كذلك. (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ۗ) الأنفال( 42) . وما دام الإيمان ابتلاء واختبارا، فلا بد أن يكون أمام الإنسان (الذي أراد الله اختباره) أكثر من احتمال في ما يخص الإجابة على أسئلة هذا الاختبار، وإلا فقد الامتحان مصداقيته. لا بد أن تكون هناك شبه ومبرات، ومجال للمراوغات. ولا بد أن يجد الإنسان أحيانا صعوبة في اختيار الجواب الصحيح من الجواب الخطأ. قد تختلط الأمور، وتتداخل الأجوبة ، وقد يكون عدد المجيبين بالخطإ أضعاف عدد المجيبين بالصواب. إنه اختبار الإيمان . أهم اختبار يتعرض له الإنسان في حياته، ومن أراد النجاح فلا بد له من الاجتهاد وحسن الإستعداد. فهل عقول وقلوب الملحدين مستعدة فعلا للنظر في مسألة الإيمان بصدق؟ إن هناك موانع إذا اتصف بها الإنسان لا يمكن أبدا أن يصل إلى حقيقة الإيمان، مهما كثرت الأدلة، ومهما نادته الجبلة. قد يحوم حول هذه الحقيقة، وقد تكون أقرب إليه من شراك نعله. لكنه لن يراها ولن يهتدي إليها سبيلا، ما دامت تلك الموانع جاثمة على قلبه. يقول تعالى: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) آل عمران (86) فليس مطلوبا من الإيمان أن يسكن بالعنوة قلوبا ترفضه، ولا من نور الإسلام أن يضيء دروب قوم يعشقون الظلمات. من أراد الهداية لا بد أن يسلك مسالكها. قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) العنكبوت(69). "موانع الهداية " سيكون عنوان المقالة اللا حقة إن شاء الله [email protected]