في كل مكان بحثت عنك . في أزقة المدينة الشعبية الضيقة وفي شوارعها الراقية . في سكون الليل وفي زحمة الناس .في قرى المملكة والمداشر . في مدن الساحل والداخل . في كل عواصم المشرق والمغرب بحثت عنك فلم أجدك . بحثت عنك في قصائد نزار، وفي أغاني الحب التي تتغنى بها العذارى ولم أجدك . وصورتك في مخيلتي لا تفارقني . جمعتها على امتداد السنين كما تجمع الطفلة الصغيرة أجزاء لعبة البازل المفككة . فيها من ملامح أبي وأخي وعمي ومدرسي وابن الجيران وزميل الدراسة والعمل . لكنني لا أعرف لك عنوانا فمن ياترى يدلني عليك ؟؟؟ حملت لك في صدري بشموخ وكبرياء وعزة امرأة مغربية حرة أصيلة أسمى وأنبل وأصدق المشاعر ... حملت لك الحب والطهر والعفة ومعاني التضحية والصبر والوفاء . بحثت عنك وأنا أتعلم أولى حروف أبجدية الأمومة ...في أول لمسة احتكاك بوليدي .. في أول نظرة إلى عينيه البريئتين...في أول صفحة أفتحها معه... وأنا أتعلم كيف أحمل جسمه الصغير بين ذراعي وكيف أفك شفرات بكائه ...وأنا أكتشف قوانين الرضاعة التي لم تكن الفطرة وحدها كفيلة بأن تعلمني إياها ... عند صرخته وأنا أمسح بقايا الحبل السري بالكحول أو وهو يأخذ تطعيمه الأول ... تلك الصرخة التي تعلمت منها أول درس في الأمومة مفاده أن القسوة على الأبناء أحيانا هي قمة الحب و الحماية . وفي كل مرة استقبلت فيها طفلا جديدا بحثت عنك . وأنا أفض اشتباكات الأبناء اليومية من أجل لعبة أو قناة تلفزيونية أو مكان أمام التلفزيون يريد كل واحد منهم أن يستأثر به لنفسه ... ألقنهم مبادىء الأخوة والعيش المشترك في الحياة بحثت عنك . وأنا أحاول بميزانية أسرة مغربية متوسطة الدخل أن أدبر المأكل والمشرب والملبس والعلاج ومصاريف الدراسة ومصاريف الجيب للأولاد واشتراك النادي الشهري للكاراتي للولد واشتراك الآيروبيك للبنت . دون أن أنسى مصاريف دروس التقوية وقسط السيارة والبيت الملك متحدية بحبي منطق أي اقتصادي أو أي معادلة رياضية. بحثت عنك . ونحن نقضي العطلة الصيفية السنوية في إحدى مراكز التصييف التابعة للعمل على رمال شواطىء المحيط أو البحر الأبيض المتوسط أو بين أحضان جبال الريف أو الأطلس ... أو في إحدى قرى سهول دكالة أو عبدة أو الشاوية الفسيحة عند الجد والجدة. بحثت عنك . في جهادي اليومي مع ابني المراهق أحاول أن أحميه من تمرده على نفسه وعلى العائلة والمدرسة والناس ... وأن أحميه من رفقاء السوء ، ومن أول سيجارة ، ومن الهروب من حصص الفلسفة الثقيلة أو حصص التاريخ والجغرافيا المملة ، أو حصص ما بعد زوال يوم السبت الباعثة للنوم بحثت عنك . بحثت عنك في جهادي مع ابنتي أحاول أن أعلمها أن الفتاة ليست فستانا جميلا وقصة شعر على الموضة وهاتفا محمولا رأته عند صديقاتها تريد مثله ...وأحاول أن أورثها عفاف وحياء وطهر أمي في عالم أصبحت تحدد معالمه قنوات فضائية ومواقع إلكترونية و لم يعد أبدا ذاك العالم الذي عاشت فيه أمي... وأنا أصر على أن أحل معادلة تربوية بالغة التعقيد بين الأصالة والمعاصرة . وأنا أنقل لابنتي عشق المرأة المغربية للجلابة والقفطان والتكشيطة بإتيكيتها المتميز الذي طالما بهرني في أميرات المملكة . ولابني نخوة الجلابة والكندورة والجابادور والبلغة. بحثت عنك . وأنا حائرة في مستقبل أبنائي الدراسي أحاول أن أوفق بين قدراتهم وميولاتهم و توجيههم إلى التخصصات التي تؤهلهم للعمل في سوق عمل لم تعد تضمنها الشهادات . بحثت عنك . وأنا في مطبخي أ تفنن في إعداد ألذ أطباق الطاجين والكسكس التي ورثتها عن مطبخ أمي مازجة إياها بحبي ... في فرحة العيد واجتماع الأهل والأصحاب وأنا أصنع أجمل حلويات البوتي فور وفطائر المسمن و الرغايف والبغرير وحلويات المخرقة وغريبة وسلو وكعب غزال ... في أيام رمضان التي جعلت فيها إعداد طعام الإفطار والعشاء والسحور جزءا مهما من عبادتي . في جلسات الشاي المسائية حول الصينية والبراد يعمها الانسجام والدفء الأسري يصحبها تقرير مفصل لأحداث اليوم بحثت عنك . في سهرات السبت والأسرة ملتفة حول برامج القنوات المحلية أو حتى الفضائيات العربية أشارك أبنائي متابعة نجومهم المفضلين بعين وأذن أم لا تخلو من انتقاد دبلوماسي لهؤلاء النجوم يوجه ذوق الأبناء بحثت عنك . في لحظات الإرهاق النفسي والجسدي والفكري ... في لحظات أنشد فيها ذاتي وأحلامي التي ذهبت مع الريح ... في لحظات أنظر فيها إلى الهالات السوداء المحيطة بعيني وأحسس فيها على خشونة بشرة يدي وتشققات قدمي ... في لحظات أتفقد فيها بحنين لا أستطيع أن أخفيه فساتيني القديمة وعدة ماكياجي المنتهية الصلاحية بحثت عنك. وعندما طال البحث، نظرت إلى أبنائي وهم يكبرون أمامي . نظرت إلى مجهود السنين .وجعلت في سعادتهم سعادتي وفي نجاحهم نجاحي وفي أحلامهم أحلامي ... لكن فرحتي الحقيقية لن تتم إلا عندما أجدك.