في الصورة الوزير الأول الهنغاري فيكتور أوربان خلال الأسبوع الماضي قدمت إحدى القنوات الفرنسية ضمن نشرة إخبارية تقريرا عن الانتخابات التشريعية التي جرت في هنغاريا، وأدت إلى فوز اليمين بالأغلبية المطلقة لأول مرة منذ انهيار المعسكر الشرقي. ومما ركز عليه التقرير أن اليمين المتطرف حصل على 47 مقعدا، وأن زعيمه حضر جلسة افتتاح البرلمان وهو يحمل على صدره شعارا ذا حمولة نازية..علما أنه لم يمض وقت طويل على منع نفس الحزب من تنظيم مسيرات شبه عسكرية لشبيبته بطريقة تذكر ببدايات هتلر في ألمانيا.. كما تم التوقف أيضا عند نقطة أساسية تتعلق بالمزايدة بين مكونات هذا اليمين والتي بلغت حد الالتزام بمنح الجنسية للأقليات الهنغارية المتواجدة في الدول المجاورة، ما يعني إمكانية إشعال حرب عالمية ثالثة، لأن هذه "الأقليات" تشكل أحيانا أغلبيات في دولها الحالية. وطيلة دقائق الربورتاج حاول المتدخلون تقديم تفسيرات لهذا التطور السياسي غير المنتظر، استوقفنا منها ما جاء على لسان مؤرخ هنغاري أكد أنه حين يريد السياسيون صرف الأنظار عن المشاكل الحقيقية للمواطن، الاقتصادية والاجتماعية منها على وجه التحديد، فإنهم يفتعلون معارك من هذا النوع..أي تماما كما يحدث عندنا هذه الأيام من تلاسن بين أقطاب الأحزاب، ليس حول ما ينفع البلاد والعباد، ولكن حول التفاهات وحول دور "الطربوش الأحمر" في بناء الهوية الوطنية مثلا.. هذا الاستهلال، رغم طوله النسبي، كان ضروريا للنفاذ إلى عمق الإشكالية التي كشف عنها التصريح الحكومي الأخير وما تلاه من مناقشات. فالذين ضغطوا على أنفسهم وتابعوا الكر والفر تحت قبتي مجلسي النواب والمستشارين، خلصوا إلى نتيجة وحيدة تتمثل في أن العمل الحزبي والسياسي عموما وصل إلى القاع، وأن الذين يقاطعون السياسة والانتخابات يستحقون التحية لأنهم على الأقل لم يساهموا في تزكية هذا الهزال الذي نقلته التلفزة العمومية على الهواء مباشرة. لقد قيل الكثير والكثير عن تصريح الوزير الأول وخلوه من الأرقام، وهذا ليس حقا أريد به باطل، بل هو باطل أريد به باطل. فالتصريح هو خطاب سياسي بالدرجة الأولى يتحدث عن محاور عامة، ولا يمكن أن يتحول إلى تقرير تقني، لأن هذا النوع من المعطيات له زمانه ومكانه..ومندوبية التخطيط متفرغة لهذا العمل حيث إنها لا تكف عن إنتاج الأرقام في الليل والنهار، بل هناك شكوك مشروعة في كل ما يروج من معطيات ومعدلات لصعوبة التحقق منها، وكلنا يذكر ما حدث بين لحليمي وولعلو بسبب التضارب الناجم عن "الاختلاف في طريقة العمل".. وليس هذا دفاعا عن الوزير الأول الذي يعتبره البعض - وبحق - أضعف سابقيه، خاصة في ظل عجزه عن الإقناع وملء كرسيه على الأقل كما كان الأمر مع إدريس جطو حتى لا نقول عبد الرحمان اليوسفي.. وعدم التعليق على شكل ومضمون تصريح الوزير الأول يفرضه أن التصريحات التي من هذا النوع جرى العمل في المغرب أن تكون مجرد خطاب نوايا موجه للاستهلاك الداخلي أكثر من أي شيء آخر. لكن بالمقابل ليس هناك ما يمنع من تسجيل بعض الملاحظات على مداخلات الأحزاب التي كشفت عن مستوى الضحالة الذي وصل إليه العمل الحزبي حتى تحت قبة البرلمان. وفي البداية نؤكد مجددا أننا كنا محقين تماما عندما أعدنا في الشهور الماضية نشر مداخلات العديد من والوزراء والنواب على هامش ملتمسي الرقابة اللذين عرفتهما الحياة البرلمانية في المغرب منذ انطلاقتها. فقد اتضح من تلك العينات أن المؤسسة التشريعية رغم كل ما قيل عن تزوير الانتخابات في حينه، كانت تعج بالكفاءات والقامات السياسية العالية، ولم تكن مجرد مقهى شعبي يعج ب"الكائنات الانتخابية" كما عليه الحال اليوم. وبالتالي فإن الذين يهددون اليوم على صفحات الجرائد بتقديم ملتمس رقابة لإسقاط الحكومة، عليهم أولا قراءة الدستور للتحقق مما إن كان بإمكانهم أصلا توفير النصاب المطلوب سواء في مجلس النواب أو مجلس المستشارين، ثم إجراء مقارنة بين مداخلات أسلافهم من اليساريين واليمينيين و"السلفيين" في ملتمسي 1964 و1991، وما جادت به قريحة زملائهم في مناقشة تصريح عباس، لتحديد نوع المسرحية التي سيتم تقديمها على المسرح السياسي المثخن أصلا بعبث الثلاثاء والأربعاء.. لقد كانت هذه المناقشة مناسبة للكشف عن فراغ جعبة السادة ممثلي الأمة، علما أن مداخلاتهم هذه المرة يفترض أنها حررت بشكل جماعي وتمت غربلتها من طرف منظري الأحزاب ومهندسيها...وليست مجرد "اجتهاد" شخصي قائم على الارتجال.. فكل ما سمعناه هو الضجيج ومحاولة افتعال معارك وهمية -على الطريقة الهنغارية- واستعمال قنابل قديمة فقدت قوتها التدميرية..من قبيل استحضار فضيحة "النجاة" التي لا ندري ما ذنب ضحاياها الذين تحلوا إلى وقود معركة هم من دفع ويدفع ثمنها من أعصابه وكرامته.. ولأن هذا النبش يستدعي رد فعل مماثل له في "الإسفاف" ومعاكس له في الاتجاه، لا ندري ما إذا كان كثيرون قد انتبهوا إلى ما جاء على لسان عمدة فاس، الذي أصبح هذه الأيام يشغل منصب قائد المدفعية الاستقلالية، في حوار أجرته معه مؤخرا إحدى اليوميات حيث قال إن وزارة التشغيل لم تقدم على "صفقة النجاة" إلا بعد تلقيها الضوء الأخضر من وزارتي الخارجية والداخلية بعد تحققهما من جدية الموضوع معتذرا بأنه لا يذكر من كان وزير داخلية حينها.. نفس المنطق حضر عند اتهام الحكومة بالسطو على المنجزات الملكية ونسبتها إلى حصيلتها، وهذه قمة الاستهتار والاستخفاف، حتى لا نقول ما هو أكبر..فأي منطق يمكن أن يبرر هذا "الاجتهاد"، ومنذ متى كانت الأوراش التي تطلقها المؤسسة الملكية خارج الحصيلة الحكومية؟ بل من ينفذ أو يتابع هذه الأوراش؟ من المؤكد أننا لم نسمع أن الديوان الملكي نشر إعلانا عن طلب عروض لبناء ميناء أو مجمع سكني أو مطار أو محطة للطاقة الشمسية؟ كما لم نسمع أن مهندسين محسوبين على القصر الملكي هم الذين يشرفون على الأوراش في الشمال والجنوب والشرق والغرب؟... إنها الشعبوية والسياسوية ليس إلا.. ولا ندري كيف لا تحتسب الحكومة في حصيلتها ما تنجزه قطاعات التجهيز والإسكان والفلاحة والصناعة .. وغيرها، وهل سيكون مطلوبا منها مراسلة ملك البلاد لتلتمس منه عدم تدشين أو وضع الحجر الأساسي لبعض المشاريع حتى تتمكن من إدراجها ضمن إنجازاتها؟.. ألم نقل إن العبث وصل إلى ما دون القاع؟ الأكثر من ذلك أن هناك مفارقة "سوريالية" لا يمكن أن تقع إلا في المغرب بلد العجائب والغرائب. فمن الملفات التي كان بالإمكان "سلخ" الحكومة فيها، الملف المتعلق بقطاع التعليم الذي فشلت كل المقاربات الاستعجالية والسلحفاتية في علاج ما به من علل. لكن المضحك في الأمر أن حزب الأصالة والمعاصرة الذي يقدم اليوم نفسه على أنه قوة المعارضة الوحيدة في البرلمان، هو من يحوز هذه الحقيبة، وبالتالي لا يحق له مناقشة السياسة التعليمية ولا الإخفاقات المسجلة، لأنه بذلك سيكون في وضع من يجلد نفسه. وعلى ذكر هذا الحزب تحديدا فإن مناقشته لم تخل من الطعن في حزب العدالة والتنمية "المعارض"، وهي خطوة لا محل لها من الإعراب السياسي..بل ليس لها مبرر منطقي لأن المفروض هو مناقشة التصريح الحكومي.. وليس تصفية الحسابات الضيقة على الهواء مباشرة.. وعلى العموم فإن المداخلات التي تقدم بها رؤساء الفرق كشفت عن الضعف البين في الأداء البرلماني، وجعلت المتابعين يتحسرون ربما على زمن "الأحزاب الإدارية" و"التزوير العام والمباشر"، لأنه على الأقل يومها كان الناس يتابعون مداخلات تهتز لها أركان البرلمان، بل نستحضر كيف أن العاهل الراحل أمر بوضع نقطة النهاية للنقاش حول ملتمس الرقابة الأخير بعد أن كادت المواجهة تنتقل إلى الشارع.. وحتى لا نتهم بالمبالغة، ها هي مداخلات الأحزاب ردا على تصريح الوزير الأول، ما تزال غضة طرية، ومن عثر فيها على اقتراح عملي واحد، فليخبرنا، بل إن "فقر الدم" الذي تعاني منه هذه الأحزاب جعلها تعجز حتى عن تدبيج خطاب سياسي ذي محاور اقتصادية واجتماعية، فاكتفت بالإنشاء والعموميات عكس ما كان يحدث مثلا في مداخلات فتح الله ولعلو حين كان يقود المعارضة السابقة..خلال "سنوات الرصاص".. والسبب في هذا الضمور واضح، فالأحزاب الحالية أصبحت تعتمد على "الأعيان"، وهو وصف ملطف ل"الكائنات الانتخابية"، أي أنها أصبحت تفضل الكم على الكيف، فعدد المقاعد أهم عندها من مستوى شاغليها..وكلنا نعلم من أصبحت اليوم في أيديهم مفاتيح اللعبة الانتخابية..إنهم في الغالب أشخاص دخلوا السياسة من النوافذ والأبواب الخلفية، وعبر تسلق الجدران، ولم يكونوا في حاجة إلى تعلم أبجديات العمل السياسي لا في الجامعات ولا في التنظيمات الحزبية الموازية، ما دام الأمر في النهاية متوقفا على حجم الشكارة ومدى استعداد صاحبها للإنفاق ب"كرم" للوصول إلى مقعد تحت أية قبة من القباب.. ولهذا يتوقع في الأيام والأسابيع القادمة أن تستفحل "الحمى الهنغارية" التي بدأت أعراضها في الظهور، منذ قرر مهندسو الأحزاب في عهد "دولة الحق والقانون والمؤسسات"، التلاسن حول مواضيع تافهة بدل الانشغال بما ينفع البلاد والعباد.. * كاتب من المغرب [email protected]