فقدنا مؤخرا د.محمد عابد الجابري - ابن رشد العصر- الذي تلقى طوال حياته الفكرية انتقادات من قبل المتطرفين بسبب مطالبه الإصلاحية في ما يخص التعامل مع الدين وتحرير العقل العربي. ومن المعالم الثقافية التي تركها لنا هذا الفيلسوف كتابين ترجما إلى اللغات اللاتنية، منهما مؤلفه "نقد العقل العربي" الذي وضع فيه قواعد وأسس الفكر والعقلانية ، إذ أصبح دليلا للغربيين على كيفية التعامل مع العقول العربية ، وحتى الكتاب المترجم للغات الفرنسية ،الإنجليزية والإيطالية يحمل عنوان "المنطق العربي" ...وبالتالي فإن العالم فقد مفكرا كبيرا. العالم الغربي مازال اليوم واقفا على الجدال حول أحقية حمل النقاب والبرقع أو عدمه، في حين بعض السياسيين ذوي بعض الاتجاهات اليسارية تؤيد الفكر التعصبي والمتطرف واضعين مسألة النقاب في خانة الفرائض الدينية ، لكن بالمقابل ليس فقط صحيفة الأحداث المغربية نشرت مقالا بعنوان " حان الوقت لمنع النقاب" بل حتى اثنين من أكبر العلماء والمفتين المسلمين أقروا بأن لا علاقة للنقاب أو البرقع بالثقافة العربية الإسلامية. أما على الساحة الدولية العربية، فإن المغرب برهن اليوم على قوة تجديدية وإحداثية كبيرة ليس فقط على الصعيد القانوني ، وإعادة النظر في التشكيلة الاجتماعية بل ذهب إلى إعادة بناء الهيكل الاقتصادي والاجتماعي واضعا بذلك أسسا متينة لدولة حديثة. وفي هذا الخصوص شرعت الدولة المغربية في بث إصلاحات جذرية طالبت بها منظمات غير حكومية وجمعيات وكذا المجتمع المدني والتي أعطت أكلها في مدونة الأسرة التي جعلت المغرب في قائمة الدول المعتنية بحقوق المرأة و حقق الإنسان. وبفضل مبادرة الحركات الشعبية المدعومة من قبل الملك محمد السادس أطال الله في عمره ، أصبحت نساء المغرب تتمتعن بقدر كبير من المساواة وخاصة الحق في الزواج دون موافقة وليٍ، الشيء الذي لا يحق لباقي نساء العالم العربي اللواتي تبقين (قاصرات) مدى الحياة ، وكذلك المساواة في اتخاذ قرار التطليق ، كما أن المدونة تعترف بالمعاهدات الدولية من أجل حقوق الطفل مؤمنة بذلك مسؤولية أكبر اتجاه الأبناء. دور وثقل المرأة الاجتماعي في نمو ملحوظ ويبرهن عليه عدد المرشحات في الانتخابات الإدارية الأخيرة وفي مقدمتهم عمدة مراكش السيدة المنصوري التي تحدت منافسا من فئة المعتقدين بأن دور المرأة يكمن في الاعتناء ببيتها فقط... وماذا نقول عن عدد النساء التي يمتهن الصحافة المكتوبة وكذا المرئية السمعية، المقاولات و اللواتي أصبحن يشغلن مناصب لا أحد كان يتخيلها؟ ، لذا فإن دور المجتمع المدني والعالم الجمعوي الذي صارع من أجل توسيع رقعة الحقوق المدنية و الفردية بالمغرب كان دعما للمسار التقدمي للبلد. بهذا يمكننا الإقرار دون أي شك أن جهاز الدولة المغربية ينمو بسرعة : كما صرح بذلك سفير الجمهورية الإيطالية بالرباط السيد أمبرتو لوكيي بالي ، في حديث صحفي خصه لمجلة "الدبلوماسية الاقتصادية الإيطالية" : العاهل محمد السادس قام بإصلاحات عميقة في كل المجلات ، بدءا بتقوية البنية التحتية وتشجيع الإصلاحات الاقتصادية الداعية إلى تحرير مختلف القطاعات ، وكذا الاستثمارات الضخمة في مجال الطاقة المتجددة (المغرب يحتل المرتبة السابعة عالميا باستثمار تسعة مليار دولار )، وانتهاء بعولمة الاقتصاد والتجارة المغربية. في هذا المسار نجد الشراكة المميزة مع الاتحاد الأوروبي التي تحرر التبادل التجاري وخاصة المنتجات الفلاحية في أفق فتح منطقة التبادل الحر مع الاتحاد سنة 2012. لكن، كل هذا التقدم الذي يعرفه المغرب لا يتوافق مع سلوكيات (طرف) من جالياته المقيمة بالخارج و التي أضحت ضحية لنوع من التراجع الثقافي مما يعرقل مسار إدماجها بالبلدان المستضيفة ، بإيطاليا مثلا، 80% من المهاجرين المغاربة قادمون من مناطق قروية ، في المقابل نجد دولة "كندا" التي استقطبت فقط الأدمغة الكبرى من المهاجرين. فكيف يمكن علاج هذا التباين؟ يجب العمل على الإدماج الصحيح للجالية و خاصة العناية بالجيل الثاني من أجل رفع الأمية عنها و وقايتها من الانزلاق العقائدي الذي يصبح تطرفا و هوية لها بدل الهوية الوطنية . فالتخلي عن المهاجرين يعني جعلهم يبحثون عن هوية أخرى يجدونها في التعصب الديني والتبعية إلى مذاهب دينية متسيسة تحملهم إلى الانعزال وكذا التطرف. لا يمكننا منح فضاء لهذا الانزلاق : يجب علينا المثابرة بكل إخلاص والعمل على ترجمة الموارد المالية إلى سياسات إدماجية على المدى المتوسط و البعيد ، جعل المهاجرين أبناء الوطن المستقبل أيضا وتحسيسهم بأنهم في بلدهم الثاني حتى نتفادى تداعيات ما يحصل في بعض البلدان الأوروبية. فإن اتخذ المغرب طريق الإصلاح و التجديد فلا يمكن و لا يجب على جاليته اتخاذ الطريق المعاكس. * صحفية وبرلمانية إيطالية من أصل مغربي