أسطول الحرية يختبر قدرة القوات البحرية الإسرائيلية منذ ظهر البارود وتوالت الكشوفات التدميرية في الصناعة الحربية ، كفّت أن تكون الحرب معركة رجال. وقد ألحق هذا الوضع ضررا كبيرا بقواة الأمم التي ارتكزت في تدريب جيوشها على الشجاعة والإمكانات الطبيعية للمقاتل. ويوما بعد يوم يتضح أن العسكرية القائمة على تقنية الأسلحة المتطورة تدرب جيوشها على الكسل والربح الرخيص للحرب. إنها حروب جديدة اليوم بين ذكاء التقنية والذكاء الطبيعي. مع أن المسألة تتعلق بصيرورة حتمية أيضا للذكاء الطبيعي الذي سيجد نفسه قد بلغ قدرة على التكيف مع الوقائع الجديدة. إن الذكاء الطبيعي اليوم يعزز حقيقة طالما تم إهمالها ، ألا وهي أن الذكاء الذي كان وراء صناعة تقنيات الفتك الجديدة هو نفسه الذكاء الإنساني القادر على الاحتماء منها والتكيف مع رعبها وابتكار وسائل الانتصار عليها وإبطال مفعولها بفعل اكتساب المناعة، هذا إن شئت بالمعنى الدارويني تجوزا للعبارة هو مبدء النشوء والارتقاء في جوهر الحرب. فمثل هذا يحدث في المجال الطبيعي وعالم الحشرات فكيف لا يتم في عالم البشر؟! الحروب الجديدة اليوم تواجه تحدي تحييد الكثير من الوسائل التي لم تعد تجدي أبدا ، مثل استعمال الطائرات وغيرها. وقد كان التفوق النووي نفسه قد أنهى جدوى الحرب التقنية كما يؤكد الخبير العسكري روبيرت سميت. وقد كشفت المقاومة عن أن زمن حروب الشجعان لم يولّ بعد . بل هنا التاريخ يعيد نفسه بشكل أكثر ابتكارا . هنا نظيف ذكاء المقاومين لتحييد القدرات التقنية الفائقة التي يختفي وراءها مقاتلون تبدو لهم الحرب أشبه بمهرجان فرقعات أطفال. والسياسة هي الأخرى شكل من المقاومة ، مادام أن لا قيمة للانتصارات الحربية إذا لم تترجم سياسيا. بل إن الحرب نفسها حسب كلاوزفيتش ليست سوى استمرار للسياسة نفسها. راهنت إسرائيل على التفوق التقني ورسخت هذا الرهاب في المنطقة مما نتج عنه جيل كامل من الجنود الإسرائيليين لا يحسنون القتال إلا في ظل تكريس الثقة في هذا التفوق الذي يضمن لهم دائما انتصارات سريعة وسهلة وغير مكلفة مع صفر ضحية. فالجندي الصهيوني يجب أن يدخل الجبهة وذهنه مفخخ بمخدر أسطورة الجيش الذي لا يقهر بالتقنية الحربية وليس بمعارك الرجال وهذا الوضع لم يعد قابلا للاستمرار. ويعود الفضل إلى المقاومة التي أبدعت من وسائل استدراج الجيش إلى الميدان واعتماد قوته وذكائه الطبيعيين في المواجهة. وبهذا يبدو رابع جيش في العالم هو أكثر الجيوش عجزا عن مواجهة ميدانية خارج ما تجود به آخر تقنية التسلح. يهمنا هنا الحديث عن جانب أساسي وراء عملية قرصنة أسطول الحرية واقتياد عدد من نشطاء السلام إلى مخافر الشرطة الإسرائيلية ، الأمر لا يتعلق هنا بأداء أفقد الكيان العبري مبررات الوجود في الأسرة الدولية فحسب ، بل يتعلق الأمر بفضيحة عسكرية أظهرت أن الكيان الذي بنا وجوده على الاغتصاب وإرهاب الدولة ، لا يحسن أن يتصرف دون أن يكشف عن هشاشته. وقد أظهرت تصريحات المسئولين الإسرائيليين درجة غباء قصوى حينما اعتقدوا أن الأمر يمكن تمريره على الضمير العالمي بمجرد تبريرات لا تصلح في عراك الأطفال. بالفعل، لقد تحدث زعماء الكيان الصهيوني مثل أطفال يبررون شقاوتهم بأي كلام . والأغرب أنهم يحاولون بوقاحة أن يصدق العالم أن أصحاب أسطول الحرية هم القراصنة وأنهم إرهابيون اعتدوا على الكوماندوس الإسرائيلي المدجج بالسلاح بعد أن قام بإنزال فوق السفينة وأطلق النار. وكان لابد أن لا يوجد في السفينة أي أثر لعصا أو خشبة أو سكين مطبخ أو شوكة، حتى لا يتهم أصحابه بأنهم يحملون السلاح الذي استفز العسكر الصهيوني. الحكاية الصهيونية اليوم تؤكد على أننا أمام كيان بارع في صناعة الأساطير. وهو اليوم كما كان دائما يحاول أن يحيط كل تصرفاته المتحدية للأعراف الإنسانية والدولية لحكايات تشبه الحكايات التي برر بها أصل وجوده في منطقة تلفظه بالطبيعة قبل التطبيع. يكفي أن تستمع إلى أي مسؤول صهيوني لكي تدرك أن هذا الكيان الفاشي لا يملك أية مصداقية للوثوق به. خطاب فيه من علامات المرض والخوف والسخف ما لا يمكن أن يتحلى به أي كيان آخر. ندرك حينئذ أن التفوق العسكري هو العامل الوحيد الذي يمنح كيانا شاذا عناصر البقاء ولو باستمراره عبئا على الضمير العالمي. إذا كان هذا هو وضع مدنيين جاؤوا لكسر الحصار إنسانيا عن جوعا ومرضى أهالي غزّة المحاصرة أمام أنظار المنتظم الدولي المستحكم من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية ، فكيف هو وضع الفلسطينيين داخل فلسطينالمحتلة يا ترى؟ حينما رمى بعض النشطاء المدنيين بخيرة الجيش الإسرائيلي في البحر إذا تأكد أن إسرائيل لم تقم على شرعية تاريخية ولا جغرافية ولا أخلاقية ، بل هي منذ وجدت اعتبرت ثكنة عسكرية تؤدي وظيفة لم تعد قادرة على تأمينها في ضوء التحولات الإستراتيجية الجارية اليوم على قدم وساق في المنطقة وعموم العالم كما عبّرت عنها الإستراتيجية الأمريكيةالجديدة التي هي إستراتيجيا المؤسسة الأمريكية وليست إستراتيجيا أوباما الذي جاء ليكون رجل المرحلة في الولاياتالمتحدةالأمريكية وليس لأنه جاء رغما عنها. اليوم إسرائيل ضربت في مقتلها: القوة العسكرية. لقد تبين من خلال كل حروب أمريكا وإسرائيل على مجتمعات المنطقة، أن استعمال القوة الجوية المفرطة بقدر ما يحدث من دمار في البنى التحتية للمجتمعات فهو يدمر البنية الفوقية للشرعية الدولية والمصداقية السياسية للدول. ولن تستطيع الدولة الغازية أن تخرج منه من دون تبعات إنسانية ومتابعات جنائية متى أصبح ذلك ممكنا، ما دام أن جرائم الحرب لا تسقط بالتقادم. فالقوة الجوية لا تصنع انتصارا بل تصنع دمار اجتماعيا تدفع الدول المعتدية ثمنه غاليا من سمعتها الدولية. كما أن القوات الإسرائيلية أكدت أنها غير قادرة على اختراق حدود العدو ، كما اتضح ذلك خلال حرب تموز والحرب على غزّة. وقد بقي لإسرائيل شيء تراهن عليه في مجمل قواتها : القوة البحرية. وحيث صالت وجالت بغواصاتها في بحر الخليج متحرشة بإيران ومراهنة على مواجهة مع إيران تلعب فيها القوات البحرية دورا أساسيا ، إلا أن أسطول الحرية كشف عن هشاشة هذه القوات. ليحقق بذلك انتصارين: أحدهما لفك الحصار وتبليغ رسالة إنسانية للعالم عن مظلومية الشعب الفلسطيني ووحشية الاحتلال الصهيوني ولا إنسانيته ، وثانيهما اختبار القوة البحرية الصهيونية التي أظهرت جبن قوات نزلوا فوق سطح السفينة دون أن يملكوا السيطرة عليها إلاّ بإحداث مجزرة دموية في صفوف نشطائها المدنيين. وقد أخذت صور عن القوات الخاصة الإسرائيلية وهي تتحاشى لكمات نشطاء سلام وتلوذ بالفرار. ولا ندري إن كانت إسرائيل تراهن على قوات من هذا الطراز لم يصمدوا أمام لكمات وأظافر المدنيين في مواجهة ألوف من شباب الاستشهاديين من قوات البحرية الإيرانية في المستقبل. كانت القوات التي قامت بالإنزال تتألف من نخبة رجال الكوموندوس التابع للقوات البحرية الإسرائيلية. ومن ضعف الجندي الإسرائيلي الذي لا يحسن أن يقاتل إلا داخل متاريسه ودروعه ، أن يعتبر أي احتجاج واندفاع من قبل مدنيين بكونه مواجهة مع إرهابيين مدربين وعسكريين. يفترض الجندي الإسرائيلي أن المدني يجب أن يذعن للقوة ويستسلم أمام القوة العسكرية. تلك هي سيكولوجيا أبناء هذا الكيان . بل هذا ما يفسر القوة المفرطة التي تستعملها إسرائيل ضد الأطفال والنساء داخل فلسطين. والحقيقة المرة فضلا عن سوء التنسيق بين المخابرات العسكرية وقوات الكوموندوس على مستوى المعلومات تؤكد أن الكوموندوس الإسرائيلي عجز أن يسيطر على السفينة عبر كل هذه المناورات الترعيبية ، لأنه واجه اندفاعا عفويا وشرسا من بعض الركاب. وقد نسي القيمون على هذا العنف الصهيوني أن الأمر هنا يتعلق بأهالي أغلبهم من الأتراك يعتبرون أنفسهم أصحاب سيادة ووراءهم دولة لن تتخلّى عنهم. ومن المؤكد حينما خططت إسرائيل لاقتحام السفينة وترعيب من فيها وقرصنتها ، كان لا بد أن تحدث ردود فعل من قبل نشطاء السلام والمتضامنين مع غزّة. وبطريقة عفوية حدث أن رمى بعض النشطاء الأتراك بالكثير من نخبة الكوموندوس الصهيوني المعتديبينما لاذ العشرات منهم بالهرب . ليتأكد مستوى تدريب الجندي الصهيوني، ويتأكد معه أي مستقبل سيبقى أمام إسرائيل وهي تملك هذا الطراز من العسكريين الذين لقنهم بعض المدنيين الأتراك دروسا في المواجهة. هل بقي أمام الكيان الأسطوري أن يلوّح مرة أخرى بقوته البحرية العازمة على السيطرة على البحار.. وهل ستستمر إسرائيل في أن تكشف كل مرة ورقة التوت عن عورات جيش يبكي في جنوب لبنان ويقذف به المدنيون من السفن في المياه الدولية. لم تعد دبابات إسرائيل تخيف حتى أطفالنا، فأي مستقبل للمراهنة على عنصر العسكرية وفرقعات عسكريين من ورق لا يحسنون إلا الفتك بالمدنيين، في غياب ما يقيم أود الكيان العبري من الشرعية التاريخية والقانونية والأخلاقية؟! [email protected]