بعد اقل من ثلاثة أشهر على انهيار صومعة مسجد باب البرادعين بمكناس، وفي الوقت الذي لا يزال عشرات اليتامى ينعون آباءهم من الضحايا، وعشرات الجرحى يضمدون جراحهم بأسرة المستشفيات، تستعد وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لإعداد قوائمها من المرشدين والواعظين والمقرئين الذين سيشكلون بعثة الوزارة إلي أوروبا خلال شهر رمضان. وفي الوقت الذي يٌرهَب آلاف المصلين من المهددين بالموت تحت الأنقاض في مآت المساجد الآيلة للسقوط، يستعد المرشحون لمهمة البعثة بتحضير المواضيع التي سيتناولونها كما يعدون الهدايا و"التداور" لمن يملك مفتاح القبول بهذه اللوائح. لا شك أن الأمر جدير بالاهتمام ما دام جل المرشحين من "الطلْبة" وأئمة المساجد والمؤذنين الذين لا تمثل أجورهم السنوية حتى عُشر المبلغ الذي تمنحهم الوزارة خلال شهر واحد، زد على ذلك كرم الجالية من مآدب ودعوات تنتهي ب " تداور " و"جمع الفلوس" تنضاف إلى "رزق" هؤلاء. ككل سنة ، ومنذ عقدين من الزمن ، تستعد الوزارة لإرسال أزيد من 170 واعظا ومرشدا إلى أوروبا ممن يكلفون دافعي الضرائب ملايير السنتيمات. وتعتبر فرنسا وبلجيكا وألمانيا وهولندا واسبانيا الوجهة الرئيسية لهذه البعثة باعتبارها الدول التي تضم اكبر عدد من المهاجرين المغاربة . إن كان الهدف وراء هذه العملية هو الإرشاد الديني، فدعونا نقول لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، أن بعثاتها لا تتقن اللغات الأوروبية وبذلك يستحيل عليها التواصل مع الأجيال الجديدة. وان من هذه الأجيال نفسها من يقومون بالدعوة إلى الله طوال السنة كل نهاية أسبوع ، وبالتي هي أحسن دون تملق على التجار و أصحاب الثروات كما تفعل البعثة التي اعتادت تشويه صورة المقرئين المغاربة وصورة دور القرآن المغربية التي داع صيتها في العالم الإسلامي منذ عصور . وان كان الهدف ، حسب بيانات نفس الوزارة، هو بعث الحنين إلى ارض الوطن في نفوس الجالية بصفتها مكسب رئيسي للعملة الصعبة: أزيد من 3مليار اورو سنويا (أعلى نسبة في تحويلات المهاجرين في شمال إفريقيا ) . فهذا حساب خاطئ، الجيل الأول للهجرة بلغ من الكبر ما جعله أكثر ارتباطا بوطنه وذويه من ذي قبل. الجيل الأول يعلم حق العلم أن هجرته في أواسط القرن الماضي كانت مقصودة في إطار تعاقدات مع الدول الأوروبية التي كانت في حاجة إلى اليد العاملة خصت بالأساس القبائل التي ينحدرون منها و التي كانت في أعين المخزن " متمردة " يجب ترحيلها و " تغبيرها "، ومع ذلك ،فهم اشد وفاء للوطن و لمقدسات البلاد. ويطالبون فقط بتسهيل المساطر الإدارية بالمصالح التي تثقل كاهلهم بالرشوة والتماطل كالداخلية والمالية والعدل. أما الجيل الجديد، يعاني الأمرين في بلد الهجرة من الميز العنصري في التشغيل والسكن والاندماج، ويطالب بحسن معاملته في بلده الأصلي من قبل الأجهزة الأمنية على الخصوص. رغم أن الإستراتيجية الجديدة لقطاع السياحة ( وهنا مربط الفرس ) نجحت في استقطاب بعضهم وهم من خيرة الزبناء أو بالأحرى فرائس العاهرات ومالكي الحانات والعلب الليلية. وان كان الهدف هو محاربة التطرف الديني والاستخبار والاستعلام ، أو حفظ النفس والمال والعرض كما جاء في جواب ل "سي التوفيق" على سؤال احد الصحفيين مستفسرا على الأبعاد الأمنية للسياسات التي تنهجها وزارته ، فان مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج ترسل بعثة خلال شهر رمضان تكلف دافعي الضرائب 150 مليون درهم ، لا تقل أهمية عن البعثة التي ترسلها وزارة الأوقاف. كما أن أساتذة اللغة العربية من اطر وزارة التربية الوطنية الملحقين بوزارة الخارجية في إطار المهمة الثقافية مجندون على مدار السنة الدراسية بالمؤسسات التعليمية الفرنسية لتعليم الأجيال الناشئة ،وهم أكثر اندماجا في الحياة اليومية للمهاجرين.زد على ذلك رجال المنصوري والاستعلامات العامة الفرنسية التي لا تتردد في ترحيل الأئمة إلى بلدهم الأصلي، بسند قانوني أو دونه ،منذ إنشاء المجلس الفرنسي للعقيدة الإسلامية. كيفما كان المنطق الذي تنهجه وزارة "السي التوفيق" في أولوياتها، فان الدول الإسلامية البترولية لا ترصد حتى 5 % مما ترصده المملكة المغربية لهذه البعثات . وأرواح المواطنين أولى من كل تبذير لدرهم واحد من المال العام. والمفارقة الغريبة أن الإحصائيات التي وردت في بلاغ الوزارة الصادر بتاريخ 18 ماي الماضي حول المشروع الذي تعتزم تنفيذه للحد من انهيار المساجد ( لنفترض جدلا أنها إحصائيات صحيحة ) فيما يخص الآيلة منها للسقوط والتي تقدر حسب بلاغ الوزارة ب 651 مسجدا ، هو الرقم نفسه الذي صرحت به الوزارة بعد دراسة قامت بها سنة 2006. هل هذا يعني أن "السي التوفيق" كان ينتظر كارثة مثل كارثة مكناس لترميم المساجد العتيقة. أم أن للحكومة أولويات أخرى كترميم القصبات التي تكلف وزارة الثقافة ما يزيد عن 100 مليون سنتيم للقصبة . أم أن المساجد ظلت على نفس حالها منذ 2006 رغم الهزة الأرضية بقوة 5.5 درجات على سلم ريشتر التي ضربت العديد من المدن ليلة 17 دجنبر الماضي ناهيك عن الفوالق من الدرجة الأولى والثانية والثالثة الناتجة عن الهزات الأرضية الخفيفة بالمناطق النشيطة زلزاليا . نفس المشروع الذي قدر بحوالي مليارين و700 مليون درهم، لم يستهدف 6194 مسجدا في حاجة إلى التجهيزات الأساسية و2743 مسجدا في حاجة للترميم و1396 مسجدا تفتقد للتجهيزات الصوتية حسب إحصائيات الوزارة كما لم يستهدف التغطية الصحية الشاملة وحقوق الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وحقوق التقاعد واحترام الحد الأدنى للأجور وإدماج كل موظفي الوزارة. وهي أمور من المسلّم أن تكون أولى من أي بعثة عديمة الجدوى إلى أوروبا أو غير أوروبا. لم يترك لي البلاغ الصادر عن إحدى وزارات السيادة ( اقرب المفاهيم إلى الدكتاتورية) أدنى شك في أمرين اثنين: الأول : من حق عائلات ضحايا مسجد البرادعين بمكناس مقاضاة وزارة الأوقاف والمطالبة بالتعويضات استنادا على بلاغات الوزارة منذ سنة 2006 حتى بلاغ 19 ماي الماضي. الثاني: أي بعثة محتملة من وزارة الأوقاف إلى أوروبا لن تكون إلا استفزازا لأرواح هؤلاء الشهداء ولأرواح الإحياء من المواطنين. و سيحاسبها التاريخ على ذلك أخلاقيا وإنسانيا ودينيا.