كمواطن من جيل الستينات، لم تتح لي الفرصة في البداية لمعرفة المرحوم محمد عابد الجابري كأحد القيادات السياسية في البلاد إلا عبر الصحافة. من خلال الصور الصحافية، كانت هيئته وشخصيته تعبر دائما عن شخصية مغربية قوية واستثنائية. وكان خاطري يرتاح عندما أصادف صورته إلى جانب المرحوم عبد الرحيم بوعبيد. وكنت أحس، كأحد أبناء الطبقة الشعبية بمدينة سيدي سليمان (من حي أولاد الغازي)، أن التنظيم السياسي الذي يشارك فيه هذا الرجل كقيادي هو حامي الفقراء مثلنا (إحساس نابع من الانتماء الطبقي). احتفظت بهذه المشاهد الإعلامية والتي جعلتني أحس بتعاطف كبير مع الحزب الذي ينتمي إليه وهو الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ أن كنت تلميذا. وكلما تقدمت في السن وازداد نسبيا مستوى نضجي المتواضع في المجال الفكري والمعرفي والسياسي، كلما ترسخت في ذهني كون التاريخ والروح الوطنية لا يمكن أن يصنعا إلا بالرجال العظماء الصادقين، وأن الذاكرة المجتمعية في مختلف الميادين ما هي إلا تراكمات تفاعلات المجتمع مع عظماءه. فلا يمكن أن نخدم المجتمع بدون شخصيات تمتزج فيهم الإنسانية والفكر والسياسة. وعندما أحسست بنوع من الوعي في تتبعي للأحداث السياسية بالمغرب، حل بي حزن شديد لم يسبق له مثيل عندما شاع خبر استقالة الفقيد من المكتب السياسي لحزبه، واعتزاله العمل السياسي للتفرغ لما هو فكري وثقافي. وأنا أتابع الشأن السياسي، لا أشعر بالارتياح والانفعال الإيجابي إلا في حالة تتبعي للكلام الصادق للعظماء شبابا أو كهولا أو شيوخا وعلى رأسهم الهرم الجابري. ووصلت إلا أقصى درجات الإعجاب عندما لمست وزنه الثقيل وعيار فكره الثاقب وهو يحاور في برنامج "في الواجهة" على القناة الثانية. كما أحسست بوزنه الاستثنائي، عندما أصادفه يحاور في القنوات التلفزيونية المشرقية وتترجم كتبه للغات الأجنبية. وازداد اطمئناني على المغرب عندما صرح في أحد حواراته أنه على دوام الاتصال بقيادة الإتحاد الاشتراكي (عبد الرحمان اليوسفي والمكتب السياسي). وأمام القوة الفكرية لهذا الهرم التي لمستها في حواراته الإعلامية وفي كتاباته، تأكد لي أن عفة الرجل ونزاهته الفكرية والإنسانية هي التي قادته إلى مستوى أصبح وزنه العالمي يضاهي وزن المفكرين في مختلف العصور التاريخية. لقد ازداد تأثري بكتاباته في العقد الأخير لكوني أحسست بالصدق والشجاعة الفكرية في التعاطي مع التراث والهوية. إعجابي بالفقيد لم يكن محض الصدفة بل جاء نتيجة تسخير تخصصه الفكري لنقد العقل العربي وما سببه منطق ممارسات وسلوكيات هذا العقل من معانات للأجيال المتعاقبة. منذ أول وهلة، وأنا أقرأ كتابات المرحوم أحسست بكينونتي وأن معاناتي السياسية والاجتماعية كمواطن من جيل الستينات تناقش وتحلل تحليلا علميا صادقا وعقلانيا جعلني أومن بإمكانية تحديث المجتمع المغربي. هذا المعطى خلق بداخلي طاقة ودفعني للقيام بمحاولات في مجال الكتابة باستحضار إشكالية المرور من المنطق التقليدي إلى الحداثة كأساس للمرور من الانتقال الديمقراطي إلى الديمقراطية. وهذا الإعجاب هو الذي قادني إلى خلق "منتدى البحث في الهوية لدعم الحداثة" على فيسبوك. وأنا أدبر هذه المجموعة، أحسست في البداية بالدهشة وبكون محور هذا المنتدى أكبر مني. وأنا أفكر في الفقيد وكتاباته، وبعد ترددات فرضها علي وزنه الدولي الكبير، تشجعت وكتبت له رسالة الكترونية عبرت له على فكرتي وتخوفاتي من جسامة المسؤولية. وما أدهشني كثيرا كون رد هذا الهرم لم يكن مباشرا، بل جاء عبر منبره الإلكتروني بفتحه محورا جديدا يتعلق بتشكل الهوية المغربية وجذورها. ونتيجة لتعاملي العاطفي مع هذا الحدث، شعرت بصدمة قوية وحزن شديد عندما أخبرت عبر الهاتف بوفاته المفاجئة. ونظرا لارتباطي الوجداني والعاطفي بمجالات اشتغاله، خصوصا بما أصدره من كتب قيمة وبما بدأه من مقالات حول الهوية المغربية، توجهت بدون وعي صبيحة يوم الأربعاء مباشرة إلى الحاسوب وولجت إلى المنبر ولم أجد إلا حديث أربعاء الأسبوع المنصرم، فأصبت بمرارة شديدة. عزاؤنا واحد كمغاربة، ومغاربيين، وكعرب في هذا الهرم الكبير، هرم إنساني من الدرجة الأولى، وهرم فكري يصعب تعويضه، وهرم ذكره التاريخ وسيحتفظ باسمه وفكره.