عن سبق إصرار وترصد، وإشباعا لشغف معرفي متوقد، عكف محمد عابد الجابري، الذي تمكن من اجتراح مسار واضح لمشروعه الفكري الرائد، على بلورة رؤى عميقة أثارت نقاشا فكريا رفيعا على اعتبار الأطروحات القيمة التي أبرزها في كتاباته التي بحثت بالأساس في كيفية تحقيق شروط النهضة للأمة، و"إيقاظها من سباتها". ومن مميزات هذا النقاش الفكري، الهادئ أحيانا والصاخب أحيانا أخرى، كون المنخرطين فيه يشكلون صفوة النخبة المثقفة العربية، منهم من انتصر لمشروع المفكر الراحل ومنهم من انتقده، أمثال طه عبد الرحمان وجورج طرابيشي ومحيي الدين صبحي وأنطوان المقدسي ومصطفى حجازي والطيب تيزيني وغيرهم. بمعنى آخر إن مشروع الجابري، الذي حدده هو نفسه في أكثر من مناسبة في تجديد العقل العربي من داخل تراثه بأدوات عقلانية مأخوذة من الثقافة الإنسانية، راهن منذ بدايته، قبل أكثر من عقدين من الزمن، على الانخراط في تفاعل فكري عميق ورفيع. وإذا جاز تحديد بوصلة لهذا المشروع، الذي شغل أيضا الباحثين الجامعيين وغيرهم من القراء، فإنه يصب بالأساس في البحث عن السؤال والمآل، أي إثارة أسئلة فلسفية ومعرفية متجددة ومتجذرة في الذات وليس طرح أجوبة جاهزة، فضلا عن الانشغال بمآل الأمة من خلال تعميق البحث في العقل العربي. ولهذا السبب تحديدا، لم يسبق للجابري سواء في مؤلفاته أو مقالاته أو حتى في دروسه الجامعية، أن قدم جوابا واحدا عن إشكالية معرفية أو مجتمعية تشغله، لأن رهانه كان هو اقتراح رؤى وطرق ومناهج وإثارة أسئلة، لاستفزاز العقل (بالمعنى الإيجابي) كي يسير في طريق الاجتهاد والتفكير من جهة، واكتساب أدوات تساعد على إيجاد مخارج لإشكاليات معرفية ومعضلات اجتماعية من جهة أخرى. وهذا ليس غريبا على مفكر كبير متمرس ومتشبع بالفكر الفلسفي الذي يعلم كيفية إثارة الأسئلة قبل البحث عن الأجوبة، ولذلك يحرص الجابري أشد الحرص على عدم الرد على منتقديه وحتى على مشايعيه، ربما لأنه يرى أن لكل قارئ ومهتم نصيب ومسؤولية في جعل "كرة الثلج المعرفية" التي أطلقها، تكبر وتتدحرج نحو المستقبل. ولذلك لم يكن متحمسا للرد على الانتقادات المتعلقة بما سمي "القراءة التجزيئية، وعدم التأصيل، ومذبحة التراث" التي ساقها عدد من المفكرين الكبار أمثال الطيب تيزيني وطه عبد الرحمن وجورج طرابيشي وغيرهم، فهو طبعا يمتلك الحجة والبراهين التي تؤهله للخوض في نقاش من هذا المستوى، لكنه لا يرى في ذلك جدوى لأن رهانه المتمثل في "خلق شبكة من المهتمين والقراء المساهمين في إغناء مشروعه الفكري" قد تحقق.