إن إعادة كتابة تاريخ المغرب، انطلاقا من رؤية علمية رصينة، ومعايير موضوعية صارمة، تهدف إلى سبكه، وصياغته صياغة جديدة، وترويضه في تيار المنظومة الشمولية، يستلزم كشف النقاب عن تاريخ غير التاريخ الذي تم الترويج له. وبما أن الوثيقة تشكل حجر الزاوية في كل كتابة تاريخية فإن أي قراءة علمية لتاريخ المغرب في شموليته، يجب أن تأخذ بالمناهج العلمية التي تعتمد النصوص والوثائق التاريخية، وتتوخى الوصول إلى الحقيقة دون السقوط في مطبات التأويلات الإيديولوجية للتاريخ، التي توظف الحدث التاريخي، بل وتزوره كمطية لبناء منظومة مجتمعية، أو لتبرير شرعية سياسية في الغالب. إذا كانت مهمة الباحث في تاريخ المغرب الحديث والمعاصر، تبدو متيسرة إلى حد ما، بفعل الوفرة النسبية للوثائق، فإن مهمة نظيره في العصر الوسيط، تبدو عسيرة ومحفوفة ببعض المصاعب والمثبطات، ذلك أن معظم الوثائق الخاصة بهذه الفترة، قد طواها الزمن، أو تم طمسها تحت تأثير حزازات سياسية وخلافات مذهبية، أو بدافع الحقد والتعصب والكراهية، ولعل أول العوامل المفسرة لهذا الفقر الوثائقي في الكتابة التاريخية المغربية الوسيطية، يرجع إلى كون المؤرخين المغاربة، كتبوا التاريخ انطلاقا من الإيديولوجية الرسمية، فكان نتيجة ذلك، أنهم كانوا يقومون بتبرير سلطة سياسية وإكسابها شرعية معينة، أكثر من قيامهم بالبحث التاريخي العلمي، فهم برروا ونظّروا لإيديولوجية معينة ولم يؤرخوا، فسقطوا نتيجة ذلك كله في تزوير فادح لتاريخ المغرب، فتبنوا موقفا معاديا للعوام، باعتبارهم الطرف الذي لا ينسجم مع التوجه الرسمي الذي تم التنظير والترويج له، فاعتبروهم: "مارقين"، "عصاة" "خارجين عن الجماعة" " متمردين"، "هراطقة"، "كفرة"، إلى غير ذلك من التسميات والتصنيفات التي طالت أغلب الثورات الإجتماعية والسياسية وزعماءها بل وطالت الوجه الآخر للتاريخ بشكل عام. وسنحاول تناول قضية الأدارسة كواحدة من القضايا الأساسية في تاريخ المغرب ووضعها في الإطار التاريخي الحقيقي انطلاقا من النصوص والوثائق، وسير الأحداث لتبيان مدى التجني على التاريخ، وعلى المغاربة من خلال اعتماد الأسطوغرافية الرسمية لقراءة منتقاة للتاريخ، شابها تزوير خطير للحقائق والوقائع، ما جعلها تتعارض مع واقع الحال وتنهار أطروحاتها أمام النصوص والوثائق والمصنفات، التاريخية ومن خلال ذلك سنعمل على دحض هذه الإدعاءات، وتبيان الحقيقة التاريخية. أطروحة: إدريس الأول محرر المغرب، ومؤسس الدولة المغربية إن هذه القضية، من القضايا الأساسية والمركزية في تاريخ المغرب، بحيث أن اعتبار رجل هارب قادم من المشرق، وجد في المغرب، الملاذ الآمن له من بطش العباسيين، إن اعتبار هذا الرجل هو محرر البلاد ومؤسس الدولة، فيه من الإستخفاف بالمغاربة، وكرامتهم، وتضحياتهم ما لا تقبله الوثائق التاريخية إطلاقا، وسنبين حقيقة محرري المغرب ومؤسسي الدولة المغربية. 1. ثورة المغاربة على الدولة الأموية وتحقيق الاستقلال : أمام التجاوزات الخطيرة التي اقترفها ولاة الدولة الأموية بالمغرب، على الكثير من المستويات: الإنسانية، الاقتصادية والعسكرية، لم يجد المغاربة بدا من إشعال فتيل الثورة منذ 122 ه/ 739م، كامتداد للثورات العديدة التي قامت بالمغرب، منذ السرايا الأولى القادمة من الشرق وخصوصا ثورتي كسيلة وتيهيا. لقد تزعم هذه الثورة، قائد مغربي أمازيغي هو ميسرة المطغري المعروف بعلمه، وحنكته، وحسن رأيه، وشجاعته، فقاد وفدا يتكون من 17 شخصا أو أكثر، منتخبين، من جميع الجهات، والقبائل وقصدوا دمشق في 40 رجلا، ويتضح من عدد الوفد أهميته وخطورة المهمة التي تكفل بها، إلا أن الخليفة هشام بن عبد الملك أعرض عن مقابلتهم فتركوا لحاجبه الأبرش شكواهم من عدة نقاط يقدمها للخليفة، وسجلوا أسماءهم وألقابهم في عارضة ليطلع عليها. ومما جاء في الشكوى التي قدمها الوفد ما يلي: "إن أميرنا يغزو بنا ويجنده، فإذا أصاب نفلهم دوننا وقال: هم أحق به، فقلنا، هو أخلص لجهادنا لأنا لا نأخذ منه شيئا...، وقالوا: إذا حاصرنا مدينة قال: تقدموا وأخر جنده، فقلنا: تقدموا فإنه إزدياد في الجهاد، ومثلكم كفى إخوانه، فوقيناهم بأنفسنا وكفيناهم، ثم إنهم عمدوا إلى ماشيتنا فجعلوا يبقرونها على السخال، يطلبون الفراء البيض لأمير المؤمنين فيقتلون ألف شاة في جلد، فقلنا: ما أيسر هذا لأمير المؤمنين فاحتملنا ذلك، وخليناهم وذلك، ثم إنهم ساومونا أن يأخذوا كل جميلة من بناتنا، فقلنا: لم نجد هذا في كتاب ولا سنة، ونحن مسلمون فأحببنا أن نعلم، أعن رأي أمير المؤمنين ذلك أم لا؟". عاد الوفد إلى المغرب، بعد أن نفذت نفقاتهم، في دمشق، وخاب رجاؤهم في مقابلة الخليفة هشام بن عبد الملك، فأدركوا أن الخلافة متواطئة مع عمالها فيما يحدث بالمغرب من ظلم وجور واستبداد، فبويع ميسرة المطغرى زعيما، وانضمت جميع قبائل المنطقة من غمارة، ومكناسة وبرغواطة والسوس، وإندلعت الثورة سنة 122 ه، فقتل عبد الله المرادي عامل طنجة، ثم قتل إسماعيل بن عبد الله الحبحاب عامل السوس، إذ هما من أسوأ العمال الذين ساموا الناس الظلم والقهر باستباحة أموالهم وبناتهم، ومن هنا ندرك أن الثورة عمت جميع أنحاء المغرب، واجتمعت حولها كل القبائل البربرية، فكان الرفض عاما وعارما للتواجد الأموي المشرقي، وكان التطلع للإستقلال شاملا، فتكبد الجيش الأموي هزيمة قاسية في فترة زمنية محدودة، بحيث أن الإنتفاضة كانت سريعة وخاطفة، أزالت كل مظاهر الحكم الأموي فبرز بذلك إسم "ميسرة" كقائد لهذه الثورة وكمحرر للمغرب من شطط السلطة الأموية، غير أن هذا الرجل، لم ينل مكانته التي يستحقها في تاريخ المغرب، بل تم تغييبه وتهميشه، بل وتشويه شخصيته ومكانته، حتى أن بعض المصادر التاريخية وصفته ب "الحقير"، وهذا طبيعي في ظل الإجتثاث الذي تعرضت له فصول واسعة من تاريخ المغرب الأقصى، والطمس الذي طال معظم مصادره الأصلية، والتهميش الذي سلط على شخصيات عظيمة، كان دورها التاريخي لا يتلاءم مع الخط الإيديولوجي الرسمي، بل ويناقضه. بعد هذه الإنتفاضة السريعة والشاملة، حاول الوالي عبد الله بن الحبحاب الإنتقام فاستجمع ما تبقى من جيوش الأمويين بقيادة خالد بن أبي حبيب، وعلى مقربة من طنجة مركز الثورة، تعرض الأمويون لهزيمة ساحقة، حيث قضي على الحملة قضاءا مبرما وهي معروفة في مصادر المؤرخين التقليديين بغزوة الأشراف، وهذا ما دفع الخليفة هشام بن عبد الملك إلى إعداد حملة من الجيش الشامي، الأداة العسكرية الرئيسية في دولة الأمويين، واختار لقيادته كلثوم بن عياض، وخاطب الخليفة قائد جنده بغضب شديد: "أقتل أولئك الرجال الذين كانوا يفدون علينا من المغرب... والله لأغضبن لهم غضبة عربية، ولأبعثن لهم جيشا أوله عندهم وآخره عندي...". ورغم كثافة الجيش الذي أرسل إلى المغرب لإخماد ثورة المغاربة فهزيمته كانت ساحقة ونتائجها كانت أكثر خطورة، بحيث أسفرت معركة بقدورة سنة 123ه، عن انهزام الجيش الأموي الذي آل مصيره إلى ثلث مقتول، وثلث منهزم، وثلث مأسور". بعد هاتين المعركتين، أفلت الشمال الإفريقي تماما من سلطة الخلافة، فكسب المغرب إستقلاله بصفه نهائية. 2. الحالة السياسية والعسكرية في المغرب بعد الثورة وقبل مجيء إدريس الأول: شكلت ثورة المغاربة سنة 122ه/739م، بقيادة ميسرة المطغري، ثم الهزائم الساحقة التي مني بها الجيش الأموي، أمام الثوار في معركتي الأشراف وسبو، نهاية تبعية المغرب للخلافة في دمشق، وبداية إستقلاله، وكان لهذه الثورة إشعاعا كبيرا وصل إلى المشرق نفسه، بحيث ساهمت في إذكاء الثورات على الدولة الأموية، سواء في مناطق أخرى من شمال إفريقيا، وفي الأندلس بحيث ثار البربر فقتلوا الوالي عقبة بن الحجاج، أو في قلب الخلافة الأموية ما عجل بنهايتها وسقوطها. نتج عن ثورة المغاربة منذ 122ه، تكون مجموعة من الدول والإمارات في أنحاء المغرب: تافيلالت – النكور - سجلماسة- تاهرت- تامسنا، وذلك قبل وصول إدريس الأول فارا من بطش الخلافة العباسية. على أن أهم هذه الإمارات أو الدول: * إمارة سجلماسة: بإقليم تافيلالت بجنوب المغرب الأقصى سنة (140ه/757م) تحمل إسم دولة بني مدرار، ويسميها ابن خلدون (دولة بني واسول)، دامت أكثر من مائتي عام، من 140ه حتى 366 ه، يعتبر "أبوالقاسم سمكو" هو المؤسس الحقيقي لهذه الدولة، وقد قص ابن خلدون أخبارها في خطوطها العريضة، فحدثنا عن العملة الذهبية رائعة المنظر التي ضربت فيها، والتي توجد بعضها حاليا في متاحف الولاياتالمتحدةالأمريكية، كما حدثنا على جباية رسم 5/1 على إستغلال مناجم درا. * إمارة تاهرت: دامت هذه الدولة من 144ه إلى 297ه/ 761م إلى 909م، بمعنى أنها إستمرت 150 عاما. مثلث هذه الدولة، المثال السياسي الديني للخوارج المعتدلين، وقد سكنها أناس غير خوارج بحيث تعايشت فيها المذاهب المختلفة في سلام ووئام. ومن المحتمل أن يكون بينهم مسيحيون، كانوا سيشاركون إلى حد ما في الحياة السياسية، ومن حيث المبدأ، كان الإمام بالإنتخاب، سلطته بالغة المدى لكنها مراقبة بدقة، فضلا عن الحياة السياسية والدينية، لعبت هذه الدويلة دور الإتصال مع الشرق والأندلس، كما أتاح لها موقعها حياة اقتصادية مزدهرة. * إمارة النكور: تكونت هذه السلطة في الشمال، على ضفاف المتوسط قرب "مليلة" منذ القرن الأول الهجري، على يد صالح بن منصور، إتخذت من حصن نكور قاعدة لها وإجتمعت عليها قبائل غمارة وصنهاجة، وإمتدت هذه الدولة حتى أوائل القرن الرابع الهجري. 3- دولة بورغواطة: من الطبيعي، في ظل الإجتثاث الذي تعرضت له فصول واسعة من تاريخ المغرب الأقصى، والطمس الذي تعرضت له معظم مصادره الأصلية ، أن يسود حلقاته غطاء سميك من الغموض والإضطراب. نالت " دولة بورغواطة" نصيبا وافرا من التغييب، والتشويه، والإقصاء، فسلط عليها طوال العصرين الوسيط والحديث وإلى اليوم عبارات التكفير والسب واللعن والتشهير بفساد معتقداتهم، ولعبت منذ البدء، الأقلام الأموية المأجورة، والروايات المغرضة في طمس الحقائق المتعلقة بشخص مؤسسها بإيعاز من موسى بن نصير، الذي هرول إلى الأندلس فدخلها فارسا بدون ساحة قتال. إن دولة بورغواطة هي نتاج ثورة 122 ه، بزعامة ميسرة المطغري، فهي الإمتداد الشرعي لها. إن مؤسسها الروحي هو طريف بن شمعون، ويؤكد ابن خلدون أنه كان من اصحاب ميسرة، ولا يخفى دور الرجلين في إنجاز هذه الثورة. وطريف من شخصيات الوفد الهام الذي توجه إلى دمشق للتشكي من تعسف الولاة، وهو أحد القادة العسكريين البارزين في الإنتفاضات والثورات التي قاموا بها ، وخصوصا الثورة التحريرية سنة 122 ه،/ 739م. عمل طريف منذ 122 ه على إرساء أسس دولة مستقلة حتى وفاته، ليتولى بعده إبنه صالح بن طريف، فكان المؤسس الحقيقي لهذه الدولة وذلك منذ 127ه/744م، على امتداد جغرافي واسع في بلاد تامسنا، على السهول المحادية للمحيط الأطلسي، وهم فرع من فروع مصمودة الأمازيغية. عمرت الدولة البورغواطية ما يقارب الخمسة قرون، وهي بذلك الدولة الأكبر من حيث امتدادها الجغرافي، وكذلك الأطول من حيث المدة الزمنية التي دامتها من بين كل الدول التي تأسست مباشرة بعد الإستقلال عن المشرق. بعكس ما ألصق بدولة بورغواطة، وملوكها، وزعمائها، من تهم وتحقير وتشويه والتي كان من وراءها بلا شك أعداؤهم من الأمويين والعباسيين والأدارسة، فقد عرف رجالات هذه الدولة بخصال عظيمة كانت محل تقدير وإعجاب المؤرخين. فطريف كما رأينا سابقا، كان من الرجال اللذين توجهوا إلى دمشق ضمن الوفد الذي قاده ميسرة المطغري، ومن الذين ساهموا في فتح الأندلس، كما أن ابنه صالح بن طريف، المؤسس الحقيقي لدولة بورغواطة شارك إلى جانب أبيه في ثورة 122 ه، وعرف عنه أنه من أقطاب الفكر والعلم والثقافة في المغرب الأقصى، ممن إستبحر في علوم عصره وتفتح على ثقافات الأمم وحضاراتها وألسنتها ودياناتها، جامعا بين ثقافة الغرب والشرق وعلوم الدين والدنيا، فتعرف على المذاهب الإسلامية، وتميز بقدرته على المقارنة بين الأديان من خلال حفظه للتوراة والقرآن. لم تقتصر معارفه اللغوية على ضبط تشعبات لسان قومه الأمازيغي، بل تجاوزه إلى التحكم في ألسنة عصره: العربي والسرياني والأعجمي والعبراني. إستوعب مقالات الخوارج، والمعتزلة والمتكلمين وغيرهم من الفرق، ولعل في هذا ما يكشف عن مكانة الرجل ومدى إنفتاحه على ثقافات وعلوم عصره. إرتبط بدولة بورغواطة مذهب خاص بها، هو المذهب البورغواطي المغربي النشأة، ولعل في مخالفته للمذاهب الفكرية والكلامية المشرقية النشأة، وخصوصا لإعتمادها اللسان الأمازيغي ما يفسر إقصاءه من طرف مؤرخي الفرق الإسلامية، مقتصرين على كيل التهم لها بالكفر والزندقة والخروج على الملة. وانتشر هذا المذهب لدى الكثير من القبائل والجهات بالمغرب: كجراوة، وزواغة، والبرانس، وبنو واغمر، ومطغرة، ومطماطة، وزناتة، وبنو يفرن، وغمارة. بل وامتد إشعاع هذا المذهب إلى الضفة الأندلسية المجاورة من خلال "الحركة المسرية"، التي رسخها بجبال قرطبة وبكافة نواحي الأندلس عبد الله بن مسرة الجبلي. إن هذا الإشعاع الفكري المغربي الذي ارتبط بدولة بورغواطة بحاجة إلى تظافر جهود المؤرخين والمفكرين للوقوف على معالمه، بعيدا عن المهاترات الكلامية العقيمة التي ظلت أسيرة ثنائية مغلقة قاصرة على قياس درجات الكفر والإيمان. إن دولة بورغواطة تراث مغربي تاريخي عظيم، إمتدت لأكثر من خمسة قرون حتى بداية دولة الموحدين وهي أول دولة تأسست بعد الإستقلال عن المشرق، فتميزت عن الدول الأخرى بامتلاكها للشرعية الثورية، وهذا ما برز بوضوح على توجهاتها الإيديولوجية والسياسية والدينية والثقافية، والمتمثل أساسا في بعدها المغربي الأمازيغي. لابد من إعادة قراءة وكتابة تاريخ المغرب بعيدا عن الإنتقائية التي طبعت عمل المؤرخين الذين يدورون في فلك التوجهات الرسمية. وأي بحث تاريخي علمي جاد يعتمد المصادر والوثائق التاريخية لابد أن يعطي دولة بورغواطة مكانتها الحقيقية التي تستحقها في تاريخ المغرب. 4-وصول إدريس الأول إلى المغرب: في الثلث الأخير من القرنين الأول الهجري/ الثامن الميلادي، ونتيجة لمعركة كبيرة دارت بالقرب من مكة وهي معركة فخ سنة 169 ه /786م، بين الجيش العباسي وبين أمير مكة والمدينة واليمن محمد ابن عبد الله بن حسين، إنتهت بهزيمة دموية قاسية تكبدها الشيعة أتباع زيد بن علي، فر إدريس من بطش العباسيين متوجها نحو المغرب. كان إدريس ابن عبد الله شيعيا زيديا، وقد عرف المشرق صراعا حادا ودمويا بين الشيعة والخلافتين الأموية والعباسية أدى إلى مواجهات دموية بينهما. قطع إدريس كل أرض نوميديا و موريطانيا القيصرية، ووصل إلى طنجة ثم اتجه إلى أوليلي (volubilis)، فوجد منطقة متمدنة. كان المغرب آنذاك مستقلا عن الخلافة العباسية وشهد نشوء دول متعددة على إمتداد أطرافه، أهمها: 1-إمارة النكور بالشمال على ضفاف البحر الأبيض المتوسط. 2- إمارة سجلماسة بتافيلالت بالجنوب 3- بورغواطة على ساحل الأطلس في الوسط. بالنظر إلى هذا الوضع، أصبح المغرب وجهة لكل المعارضين للخلافة الأموية والعباسية في المشرق من : خوارج، شيعة، معتزلة وغيرهم. وصل إدريس الأول إذن إلى المغرب في حدود عام 172 ه/ 789م، فوجد مغربا مستقلا، حرا، قائما بذاته، مستعدا لاستقبال كل المضطهدين والمعارضين مهما كانت توجهاتهم، وعلى هذا فإدريس جاء إلى المغرب كلاجئ سياسي مضطهد، فوجد في قبائل أوربة الأمازيغية مستقرا له، وبناءا على الكثير من المصادر التاريخية، فقد عينه زعماء أوربة إماما، فزوجوه من أحد بناتهم. توفي إدريس الأول بعد 5 سنوات مسموما سنة 177ه/794 م، ويكتنف الغموض هذا الأمر بشكل واضح رغم توجه بعض الكتابات التاريخية إلى إدعاء وقوف العباسيين أو الشيعة وراء مقتله، بحيث يمكن ربط مقتله بأسباب سياسية وإيديولوجية مع القيادات الأوربية الأمازيغية. أما إدريس الثاني فتدور حوله شكوك كبيرة، وغموض واضح فيما يتعلق بنسبه لإدريس الأول، على اعتبار ولادته بعد وفاة هذا الأخير بمدة زمنية معينة تصل في بعض الوثائق التاريخية إلى إحدى عشرة شهرا. كما تحوم شكوك حول شخصيته ومدى سلطته في قبيلة أوربة. يذهب عبد الله العروي إلى القول بأن إدريس الأول كان يخضع تمام الخضوع لأولئك الذين تبنوه ( أوربة)، أما إدريس الثاني فقد أثار غضب القيادات الأوربية عندما أدخل في خدمته 500 عربي مهاجرين من الأندلس ومن القيروان، وألف لنفسه حرسا شخصيا، وبنى مدينة فاس على حساب أوليلي، وحاول استقدام العرب من قرطبة والقيروان وحتى من المشرق لتوطينهم في أوربة. وكل هذا كان محاولة منه لتعريب النخبة على حساب الزعامات الأوربية الأمازيغية. أدى هذا التصرف إلى أزمة سياسية عام 808م، سرعان ما وضعت حدا لنيته في مصادرة السلطة، وعليه أعطى زعماء أوربة لإدريس الثاني إشارات قوية بأنهم إستقبلوه إماما أكثر منه زعيما سياسيا، فهم كانوا ينظرون إلى الأدراسة على أنهم دعاة واجبهم الأساسي القيام بالدعوة. إستمر إدريس الثاني 23 سنة، وفي هذه المدة لم يستطع التوسع جهة تامسنا، وانهزم مرتين أمام بورغواطة. بعد وفاته سنة 213 ه/828م، قامت صراعات بين أبنائه فقسم إبنه الأكبر محمد الأقاليم المحتلة بين إخوته الستة ولم يحتفظ لنفسه إلا بلقب الإمام. أما فيما يتعلق بالتعريب فيذهب عبد الله العروي إلى القول بأن أمره أقل ثبوتا بكثير، إذ أننا عندما نتعرف في القرن الحادي عشر على أفراد من فروع إدريس البعيدة، وقد صاروا شيعة على نحو واضح في السباق على السلطة في الأندلس بعد سقوط الخلافة في قرطبة، فإنهم سيكونون قد تبربروا. إستمر الأدارسة لما يقارب قرنا ونصف، ولم تتحدث المصادر التاريخية عنهم وعن عاصمتهم فاس بصورة مفصلة إلا إبتداءا من أواسط عهد بني مرين، أي بعد مرور أكثر من خمسة قرون على تاريخ وصول إدريس الأول إلى المغرب سنة 172ه. وهذا كاف لإضفاء ظلال قاتمة من الغموض والشكوك حولهم. ويحق للمرء أن يتساءل: لماذا تأخر الإهتمام بالتأريخ للأدارسة إلى عصور متأخرة جدا، ولماذا إهتمت الأسطوغرافية المرينية بصفة خاصة بالتنقيب عن ماضي الأدارسة، ولماذا حظوا بإهتمام كتب التراجم والمناقب والأنساب المتأخرة التي رفعت كلا من إدريس الأول والثاني إلى مرتبة الأولياء والأقطاب، وأضفت عليهما دلالات خاصة؟. إن تدوين التاريخ كان يتم تحت رعاية السلطة السياسية القائمة إن لم نقل بإيعاز وتشجيع منها، وهذا ما كان وراء اهتمام الأسطوغرافية الرسمية برفع مقام الأدارسة وجعلهم مؤسسي الدولة المغربية ضدا على الأحداث والوقائع التاريخية، وخلافا لما تؤكده المصادر والوثائق. فلا بد من التمييز بين التاريخ وبين الإيديولوجية السياسية التي تستعمل التاريخ لأهداف ومكتسبات آنية. إن المرابطين والموحدين لم يكونوا يستطيبون سماع ذكر أخبار بني إدريس منذ إجهاز موسى بن أبي العافية عليهم، إلا أنه منذ أواخر دولة بني مرين، بدأت المصادر التاريخية بتشجيع من السلطة تتحدث لأول مرة بوقار وتفصيل عن الأسرة الإدريسية، فألف إبن أبي زرع الفاسي، وعلي الجزنائي مؤلفين في تمجيد الأدارسة بأمر من السلطان أبي سعيد عثمان المريني ( 719ه إلى 731 ه)، ويعتبر هذان الكتابان المرجع الأساسي للسلطة الرسمية وللمؤرخين الذين يدورون في فلكها منذ ذلك الحين وإلى الآن في الدفاع عن الشرعية السياسية الإدريسية. فالمرينيون بسبب تبنيهم للمذهب المالكي السني، وإقراره مذهبا رسميا للدولة، وجدوا أنفسهم مضطرين إلى البحث عن دعم سياسي ومذهبي لتثبيت ركائز نظام حكمهم، فحضي الأدارسة دون غيرهم برعاية كبيرة،رغم ان إدريس الأول كان شيعيا وفيا للدعوة الشيعية، كما أن أبناءه وذريته كانوا شيعة خلصا كذلك. وأصبحوا منذ هذا التاريخ يحتلون مكانة خاصة وسط المجتمع، وتمت صياغة تاريخ الأدارسة صياغة جديدة موجهة بصورة تخدم الإتجاه الإيديولوجي والسياسي العام الذي تسير فيه الدولة. فعند تجميع الإشارات التاريخية الواردة في المصادر المرينية ، والمصادر ما قبل المرينية، ومقارنتها فيما بينها، نجد تضاربا كبيرا فيما يتعلق بحقيقة الدعوة الإدريسية: فقد إنتقل الأدارسة مثلا من قرامطة متطرفة حسب المقدسي، إلى شيعة زيدية على لسان البكري، ومن فاطميين حسب الإسطخري، إلى مالكيين سنيين في الأسطوغرافية المرينية وما بعدها إلى اليوم. فابن أبي زرع عندما يتحدث عن تأسيس إدريس بن إدريس لمدينة فاس يورد حديثا ملفقا موضوعا منسوبا إلى الرسول (ص) يقول : " ستكون مدينة تسمى فاس، أهلها أقوم أهل المغرب قبلة، وأكثرهم صلاة، أهلها على السنة والجماعة، ومناهج الحق، لا يزالون متمسكين به، لا يضرهم من خالفهم، يدفع الله عنهم ما يكرهون إلى يوم القيامة"، مع ما في هذا الأمر من تزوير وكذب على الرسول (ص)، واستعمال قبيح للدين من أجل تحقيق مكاسب سياسية آنية. أصبح الأدارسة منذ عهد بني مرين وإلى الآن يشكلون فئة إجتماعية متميزة، تستمد مشروعيتها الدينية والسياسية والإجتماعية من نسبها الشريف، فرفعوا إلى درجة الأولياء والصالحين، وألبسوا هالات من القداسة والتفخيم، وسلطت عليهم دون سواهم أضواء ساطعة، جعلتهم محرري المغرب، ومؤسسي الدولة فيه، رغم ما في هذا الإدعاء من تحريف صارخ للتاريخ. إن التاريخ الحقيقي هو تاريخ المغرب والمغاربة الموجود في المصادر والوثائق التاريخية، وليس التاريخ الذي تروج له الإيديولوجية الرسمية. 5-قضية تأسيس الدولة المغربية: إن أصول الدولة المغربية، تعود إلى قرون قبل الميلاد، فالمغاربة لم يكونوا ينتظرون قدوم إدريس سنة 789م، ليؤسس لهم دولة، وعرفت الدولة المغربية توسعا وانحسارا تبعا لمنطق التاريخ وحركيته. شهدت شمال افريقيا تكون ممالك عظيمة، وأنتجت حضارة وثقافة وواجهت المستعمرين القادمين من الشرق، والغرب ( من فنيقيين ورومان وبزنطيين ووندال وعرب وأوروبيين... ). كان أهم هذه الممالك:مملكة مازيسولة بزعامة سيفكس Syfax. مملكة ماسولة بقيادة ماسينسا،ومملكة موريطانيا أو مملكة المورييين. عرفت هذه الممالك تنظيمات ومؤسسات سياسية واجتماعية واقتصادية مهمة، تحدث عنها المؤرخون القدامى بإسهاب وتفصيل. لقد تمكن أجدادنا من حكم مصر الفرعونية على يد الملك الأمازيغي العظيم ''شيشنق''، كما واجهوا الغطرسة الرومانية بزعامة القائد العظيم ''يوغورطا''، وأنشأوا ممالك قوية، ومؤسسات سياسية متميزة أثناء حكم ملوك أقوياء مثل: ماسينيسا، سيفكس، يوبا... إلى حدود القرن السابع الميلادي، عانت شمال افريقيا من التوجهات الإستعمارية للبيزنطيين ورثة الرومان، فقام المغاربة بثوراث متتالية وواجهوهم في عدة معارك، وشنوا عليهم حرب تحرير لم تخمد أبدا، فكانت الوضعية العسكرية والسياسية قبل وصول أولى السرايا والحملات العسكرية القادمة من المشرق هي تواجد بيزنطي على بعض المرافئ في أقصى الشمال على الساحل المتوسطي ، بحيث أنهم لم يسيطروا على المغرب كله من حدود مصر إلى المحيط و من البحر إلى قلب الصحراء، وإنما كانت ممتلكاتهم جزءا صغيرا يبدأ من حدود مصر،ثم يأخذ في الإقتراب والإنحسار على الساحل المتوسطي حتى طنجة، اما في الجنوب فلم يكن يتعدى أرباض الموانئ مثل: Tipasa ، coesorie ، Tenes،Oran، Tanger، أي إلى حدود الخط الدفاعي الشهير الذي أقامه الرومان والمعروف تاريخيا بالليمس الروماني، خوفا من هجمات الثوار التي لم تهدأ أبدا. قبل وصول العرب إذن، كانت في بلاد المغرب تنظيمات سياسية وقبلية، كما وجدت زعامات أمازيغية بارزة. لم يستطع الأمويون فرض سيطرتهم على المغرب، فلم تهدأ التمردات والثورات التي قام بها المغاربة، حتى سنة 122 ه ، حين قامت الثورة الكبرى بزعامة ميسرة المطغري والتي أدت إلى الإستقلال الكامل للمغرب عن المشرق ، وإلى تأسيس دول تعبر عن إيديولوجيات مخالفة لما حاول الأمويون والعباسيون فرضه. فالمغرب أصبح وجهة لكل الفرق والمذاهب السياسية والدينية والكلامية الناقمة على الخلافة الأموية والعباسية. وهذه المذاهب وجدت في المغرب ملاذا آمنا للتعبير عن آرائها وتوجهاتها بحرية كبيرة. فتكونت دول إختلفت درجات قوتها وحضارتها وإشعاعها كما تفاوتت أعمارها ومساحتها، كانت دولة بورغواطة التي امتدت لأزيد من 5 قرون حتى العصر الموحدي من أهمها، بحيث تأسست منذ 127 ه، ثم تلتها دول أخرى كسجلماسة، النكور، الأدراسة وصولا إلى المرابطين والموحدين وما بعدهم. إن المغرب لم يكن يوما أرضا خلاء، تنتظر القادمين من الشرق والغرب، ليؤسسوا الإنسان، والدولة، والهوية والحضارة. إن المغربي كان منذ 33 قرنا، إنسانا منتجا، فاعلا، متفاعلا، مع الحضارات والثقافات والشعوب الآتية من الشرق والغرب وفي محيطه المتوسطي. إستقبل المغاربة الفنيقيين والرومان والبيزنطيين والوندال، والعرب، والإسبان والبرتغاليين والفرنسيين، واليهود والمسيحيين والمسلمين، والخوارج والشيعة ، والمعتزلة، والهراطقة، والخارجين عن الملة، والداخلين فيها، وكان المغرب في كل ذلك لا يعير اهتماما إلا للبعد الإنساني، وواجه الأطماع الاستعمارية بشراسة وقوة وعزيمة. إنه لمن الإجحاف في حق التاريخ، ومن العبث الفكري والإيديولوجي، ومن الاستخفاف بكرامة وعطاء وعظمة المغاربة، أن نلغي كل هؤلاء الرجال العظام، وكل هذا التراث التاريخي المغربي العظيم الممتد لقرون قبل الميلاد، بجرة قلم سلطة سياسة ، ارتأت أن تجعل من تاريخ قدوم رجل هارب من الشرق بداية لتاريخ المغرب. إن المدنيات المتتابعة التي طرأت من الخارج، لم تكن بالنسبة إلى الأمازيغي المغربي إلا ثيابا متنوعة تستر جسدا وروحا لا يتغيران.