شكل العزوف عن التصويت، وهجر صناديق الاقتراع، قاسما مشتركا لجميع الانتخابات الأوروبية السابقة، إذ لم تنفع جميع الحملات الانتخابية والعمليات التحسيسية المكثفة في حمل الناخبين على المشاركة في هذه الاستحقاقات. فقد بلغت نسبة العزوف عن التصويت خلال انتخابات 1979، نحو 37.57 بالمائة، فيما كرست الانتخابات الموالية هذا التوجه، إذ تفاقمت النسبة لتصل إلى 43 بالمائة سنة 1989 قبل أن تتجاوز سقف الخمسين بالمائة عشر سنوات بعد ذلك، بينما سجلت هذه النسبة سنة 2009 مستوى قياسيا غير مسبوق حيث وصلت إلى 57 بالمائة. ومن سخرية التاريخ، أن تتراجع مستويات المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية في الوقت الذي تعززت فيه صلاحيات المؤسسة التشريعية الأوروبية. وعلى بعد أيام قليلة من إجراء انتخابات 25 ماي الجاري، لا يزال هاجس الامتناع عن التصويت يقض مضجع المسؤولين الأوروبيين، حيث يتساءل الكثيرون عن مدى استعداد الناخبين للتوجه إلى صناديق الاقتراع من أجل انتخاب برلمان جديد في ستراسبورغ. ومع ذلك، يبدي المراقبون السياسيون، اليوم الكثير من التفاؤل بخصوص نسبة المشاركة في الاستحقاقات القادمة، مؤكدين أن الأمر سيكون مختلفا هذه المرة، بعدما تم الحرص على تسويغ عزوف الناخبين في المرات السابقة بغياب لكل حافز أو رهان في الأفق. ويبرزون في هذا الصدد أن الاقتراع الجديد يوفر للناخبين إمكانية التأثير في مسار ومصير أوروبا من خلال انتخاب 751 نائبا أوروبيا، تتزامن ولايتهم التشريعية التي تستمر خمس سنوات مع نهاية السياسات الأوروبية الحالية. وفي السياق ذاته، اختار البرلمان الأوروبي شعار "الأمر سيكون مختلفا هذه المرة"، لدى إطلاقه في شتنبر الماضي حملته التحسيسية والتواصلية الخاصة بهذه الانتخابات. ذلك أنه سيتم للمرة الأولى انتخاب الرئيس القادم للجنة الأوروبية من طرف برلمان ستراسبورغ، حيث ستتولى المجموعات السياسية تقديم مرشحيها لهذا المنصب. وهو ما يعني أنه سيكون بإمكان الناخبين التأثير بشكل حقيقي في تحديد الشخصية التي ستتولى قيادة المؤسسة التنفيذية الأوروبية، وهو ما يعد تحولا نوعيا، كفيل لوحده، بحمل الأوروبيين على التوجه إلى صناديق الاقتراع يوم 25 ماي. كما يختلف الاقتراع القادم عن سابقيه، في كونه أول استحقاق ينظم بعد أن بادرت معاهدة لشبونة لسنة 2009 إلى توسيع صلاحيات البرلمان الأوروبي في عدد من المجالات الحيوية بالنسبة لأوروبا حيث أضحت المؤسسة التشريعية تتوفر على صلاحيات شبيهة بتلك التي يتوفر عليها مجلس أوروبا. وفي هذا الصدد، سيكون بإمكان الأغلبية السياسية الجديدة التي ستفرزها هذه الانتخابات صياغة السياسات الأوروبية في مجالات متنوعة وواسعة تمتد من السوق الموحدة إلى الحريات المدنية. وبالتالي، سيصبح برلمان ستراسبورغ، الذي يعد الهيئة الوحيدة التابعة للاتحاد الأوروبي التي يتم تشكيلها عن طريق الاقتراع المباشر، إحدى أهم الآليات الرئيسية في منظومة اتخاذ القرار الأوروبي حيث سيتمتع بوزن يفوق ثقل الحكومات الوطنية في ما يتعلق بجميع التشريعات الأوروبية. وحرصت اللجنة الأوروبية على استعراض نفس هذه الحجج والمسوغات، لاسيما وأنها تعتبر أن البرلمان الأوروبي لم يتمتع قط ، كما هو الحال اليوم، بسلطة تمكنه من تحويل وتغيير أوروبا، مما يعد بالنسبة للجنة الأوروبية ميلادا حقيقيا للديمقراطية الأوروبية. وقد حرصت اللجنة بدورها على تنظيم حملة خاصة لتعبئة وتحسيس الناخبين الأوروبيين بأهمية اقتراع 25 ماي، حيث تم تنظيم نحو 50 لقاء لحث وإقناع الناخبين في مجموع بلدان الاتحاد الأوروبي بجدوى التوجه إلى صناديق الاقتراع. وتميزت هذه اللقاءات بحضور 16 ألف شخص كما تابعها أزيد من 105 ألف آخرين عبر شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. ومع ذلك، وبالرغم من كل هذه الجهود، فإن سؤال المشاركة وهاجس العزوف عن التصويت يظل مصدر قلق بالنسبة للجميع، ويطرح بالتالي مدى قدرة تعزيز صلاحيات البرلمان الأوروبي و الحملات التحسيسية التي نظمها برلمان ستراسبورغ واللجنة الأوروبية، على حمل الناخبين على تغيير قناعاتهم ومصالحتهم مع صناديق الاقتراع. وبالمقابل، يسعى المشككون في أوروبا والمتخوفون منها، الذين يحاولون اختزال هذه الانتخابات في نقاش "مع أو ضد أوروبا"، إلى التقليص من جدوى هذه التدابير . ويرون ، في هذا الصدد، أن برلمان ستراسبورغ الذي يمثل نحو نصف مليار أوروبي ينتمون إلى 28 دولة، يظل مؤسسة بعيدة كل البعد عن انشغالات المواطنين. *و.م.ع