أثار رفض علماء الأزهر وغيرهم لفتوى تجيز تلاوة القرآن بالتركية في الصلاة، حفيظة البعض عندنا، ليطلق لخياله العنان في تعداد مثالب تلاوة القرآن كما أنزل والتعبد به لغير الناطقين بالعربية، ومحاسن التخلص من اللغة الجامعة للمسلمين في أمور الدين، والإحالة على ما حصل في تاريخ المسيحية من الانتقال التدريجي من اللغة الجامعة إلى استعمال لغات الناس اليومية والتحرر من العبودية لغيرهم. والحال أن جماهير علماء الأمة منذ فجر الإسلام على تحريم قراءة القرآن بغير العربية وأن الصلاة لا تصح بذلك، وحتى ما نقل عن أبي حنيفة بتجويز قراءة الفاتحة بالفارسية لغير القادر على العربية، ذكر الأحناف أنفسهم تراجعه عن رأيه، قال صاحب الهداية الحنفي بعد ذكر المسألة: "ويروى رجوعه في أصل المسألة وعليه الاعتماد" (الهداية مع شرح فتح القدير 1/249). وقال الشيخ علاء الدين الحصكفي من الحنفية بعد ذكر المسألة: "لأن الأصح رجوعه -أبو حنيفة- إلى قولهما -أبو يوسف ومحمد- وعليه الفتوى" (الدر المختار شرح تنوير الأبصار 1/484). وأكد العلامة ابن عابدين الحنفي صحة رجوع أبي حنفية عن قوله في هذه المسألة (حاشية ابن عابدين 1/484). والدليل العملي والواقعي على انضمام الأحناف لجمهور العلماء في حرمة القراءة في الصلاة بغير العربية، هو حال الناس في تركيا الآن وغيرها من بلدان العالم التي تتمذهب بالمذهب الحنفي حيث لا يعتمدون ذلك الرأي على فرض وجوده، ولو كان الأمر خلاف ذلك لما كان لهذه الفتوى الجديدة معنى. وأضيف على فرض وجود الرأي المجيز، بأنه رأي مرتبط بحال العجز والاضطرار والاستثناء ريثما يتمكن صاحبه من التعلم، فيكون شبيها برأي الجمهور القائل بأن العاجز عن تلاوة الفاتحة يذكر الله في الصلاة إن لم يتيسر له الائتمام بالقادر على ذلك. ولا شك أن ترجمة الفاتحة وقراءة معناها تدخل في الذكر ولا تعتبر قرآنا بحال من الأحوال. وهاهي الأمة عبر تاريخها الطويل، لم تشكل هذه المسألة عائقا من عوائق فهم الدين، أو حاجزا يحول دون الإيمان الحق بمعانيه، وعجمها أضعاف أضعاف عربها، بل كان هذا الحكم حافزا على تعلم العربية والنبوغ فيها. فهذا سيبويه إمام النحاة الذي إليه ينتهون، وعلم النحو الشامخ الذي إليه يتطلعون، وصاحب كتاب العربية الأشهر ودستورها الخالد،فارسي الأصل،وكذلك الشأن في الكسائي وابن خالويه الهمداني وأبو علي الفارسي ،ومجد الدين الفيروزبادي صاحب القاموس المحيط،ومن غير هؤلاء ابن فارس القزويني والثعالبي النيسابوري و ابن جني صاحب الأصول الرومية، وابن منظور الإفريقي المصري صاحب لسان العرب، وخذ من المتأخرين جدا الأمازغي المغربي ابن آجروم محمد بن محمد بن داوود الصنهاجي الذي برع في النحو، فكتب فيه متنا مختصرا مفيدا كان مرجعا لطلاب العربية في طول العالم الإسلامي وعرضه، فأول ما يتعلمه طلاب العربية وإلى عهد قريب ولا يزال في الكثير من البقاع "متن الآجرومية" في مبادئ العربية، ويدينون بالفضل العظيم لمؤلفه، ويترحمون عليه عند قراءة جزء من متنه. فلم يكن الناس يرون في العربية عرقا وعنصرا قبليا بقدر ما رأوا فيها لسانا لوحي ربهم، وسنة نبيهم يتقربون إلى الله بحبها وتعلمها واستعمالها في فهم الدين والتفقه فيه. فالله يخلق ما يشاء ويختار، خلق البشر واختار منهم الأنبياء، وأنزل الشرائع واختار منها بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم الإسلام، وخلق الشهور واختار منها رمضان، وخلق الليالي واختار منها ليلة القدر، وخلق الأيام واختار منها الجمعة وعرفة، وليس غريبا أن يختار لوحيه الخاتم لغة العرب، فحفظ شأنها بحفظ القرآن، ولولا الذكر الحكيم وجوامع كلم المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم، لاندثرت وتغير حالها وصارت في أحسن الأحوال هي هذه اللهجات المحلية أو أشد من ذلك، فرغم أن الإسلام دين عالمي للبشرية كلها، إلا أن العربية بقيت من لوازمه في التعبد والتفقه في الدين. وإذا كان اشتراط العربية مسلما فيمن أراد التفقه في الدين والإمامة فيه، فالتعبد بتلاوة القرآن كما نزل بلغة العرب في الصلاة وغيرها، طريق لإثارة الانتباه وتعلق العقل والقلب لتعلمها والتفقه فيها وإذكاء الرغبة في الرجوع إلى اللغة الأصلية لمصادر الدين. ولو لم تكن مقصودة لاكتفى القرآن كما هو شأنه في الحديث عن التقوى بالتأكيد على أن الأكرم عند الله هو الأتقى، وبأنه لا فضل لعربي على عجمي كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، فكان بذلك بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وطارق بن زياد الأمازغي أفضل عند الله وأعظم من أبي لهب العربي.غير أنه في اللسان اعترف بأن الاختلاف فيه من آيات الله للعالمين، ومن سنته في خلقه أن جعلهم شعوبا وقبائل ليعرف بعضهم بعضا، ولعل من أقرب السبل في ذلك بخصوص المسلمين اختيار اللغة العربية لتكون لغة لدينهم يتعارفون بها في مشارق الأرض ومغاربها مهما اختلفت ألسنتهم ولهجاتهم، فالتعدد اللغوي ووجود واحدة منها للتواصل المشترك ليس مستغربا في المنطق الحضاري في دنيا الناس فكيف بمن تجمعهم قبلة واحدة ودين واحد. ومن هنا تأتي فائدة التنصيص على اللسان العربي في الخطاب الموجه للعالمين، قال تعالى:" : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف 2]، وقال عز وجل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء 192 - 195].وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أعطيت جوامع الكلم" أي قليل اللفظ كثير المعاني. وامتزجت العربية بالدين امتزاجا لا يكاد يعرف فكاكا، فكان بذلك المبتدئ في لسان العرب مبتدئا في شريعة الإسلام، والمحارب للغة الضاد هو بالتبع والأصل محارب للإسلام، والمحارب للإسلام سينتهي حتما إذا نجح لا قدر الله في تقليص نفوذه، إلى تقليص نفوذ لغة الضاد، وهذه الأندلس في الماضي لما ضاع دينها ضاعت عربيتها، وفي الحاضر كلما تقدم نفوذ الإسلام تقدمت معه العربية فنجد المسلمين الجدد من مختلف القارات أكثر شغفا وحبا في تعلم لغة القرآن، ومثال تركيا اليوم واضح بين، لما انتعش فيها تيار التدين انتعشت فيها العناية بالعربية بل حتى بالعرب فحضر رجب أوردوكان قمة العرب وغاب عنها الكثير من قادتها.