لكل بلد في هذا العالم ركائز يقوم عليها، وأسس تجمع بين أبنائه وتوحد بينهم وإلا كان مصيره الفرقة والتفرقة، والخلاف والتجزئة،؛ ومما لا شك فيه أن المغرب بلد له هويته و مكوناتها، وحضارته وقيمها، وثقافته وثراؤها، وكلُها يتفق عليها أبناؤه ويُجمع عليها فُضلاؤه، وهي مستمدة من تاريخه العريق بحضارته الإسلامية ودولته التي حافظت على استقلالها وتماسكها عبر القرون، مما يجعل المجتمع المغربي مجتمعا متماسكا متجانسا بفضل الله تعالى، انصهرت داخله كل المكونات والتشعُبات فزادته بتعدُّدها قوة وغِنىً وثراء. ولهذا أصاب المُشرع المغربي والمُنظِّر لدولة المغرب الحديث بجعل الإسلام دين الدولة الرسمي، ونص على ذلك في أسمى قانون يحكم الدولة وهو الدستور؛ وبحكم هذا فالمواطنون مُلزَمون باحترام ما يترتب على هذا الانتماء،ومراعاة ما يستلزم هذا الانتساب دون أن ننسى حقوق اليهود المغاربة الذين كانوا ولا زالوا يتمتعون بحرية معتقدهم وتديُّنهم. إن الحرية والديمقراطية لا تعنيان التشكيك فيما يشكل دعائم الدولة وأسسها وعُراها، فمثلا لا يستطيع أي كان أن يُشكك في علمانية فرنسا ويجعلها محل نقاش، ولا في ليبرالية أمريكا ويتخذها موضع تساؤل، والحال نفسه في جميع الدول الديمقراطية المتقدمة؛ لكننا اليوم في المغرب نرى رهطا من الناس لا يكتفي بالدعوة إلى ما يناقض أهم مقومات الدولة المغربية فيطالب بفتح المجال للشذوذ والإباحية والخمر والفساد -والكل يعلم موقف الإسلام والمجتمع منها-، بل يذهب أكثر من ذلك ويعيب على كل من لم يتفق مع آرائه الضالة وأفكاره المنحرفة. وبدعوى الحرية أصبح المخطئ هو المصيب، والفاضل هو المسيئ، والأدهى والأمَرّ أن يصبح أصحاب المنكَر هم المنكرون على غيرهم، وأضحوا يريدون حرم غيرهم حتى من حرية التعبير وإدانة المنكَر ديناً وعُرفاً، وعادة وتقليداً ولو كان الإنكار بالقلب واللسان فقط، بما أن التغيير باليد هو من اختصاص ذوي الأمر وصلاحياتهم. لقد أصبحنا نرى من لا يفتأ عن ممارسة الإرهاب الفكري الذي يمنع الإنسان أن يحتج بما اتُفق عليه بين الخاص والعام، والصغير والكبير، والقوي والضعيف بدعوى أن هذا خلط بين السياسة والدين، وهكذا نرى اليوم أنه بدعوى الحداثة والتقدمية، والانفتاح والديمقراطية يحاول البعض التشكيك في بعض ثوابت الهوية المغربية وركائزها وأسسها، وأصبح الدفاع عنها يعتبر انغلاقا وتطرفا إن لم يعتد رجعية وظلامية، وكأن الدفاع عن المبادئ والقيم جريمة، والحديث عن الأخلاق والفضائل رذيلة، والإنكار على الفساد والمُفسدين خطيئة . إن بعض هؤلاء يعتبرون كل ما يأتي من الغرب تقدما وحداثة، وكل ما أتى ويأتي من الشرق تخلفا ورجعية، ووصلت بهم محاكاة الغرب أن أصبحوا يأخذون منه كل ما هب ودبّ، لا يراعون في مجتمعهم إلاًّ ولا ذمة، وإذ أننا نحترم حق الفرد في الاختيار والتطبيق من عدمه|، ما دام ذلك في الإطار الفردي الخاص الذي لا يهدد استقرار المجتمع وتماسكه؛ فإنه لا يمكن ولا يجوز السكوت عن الدعوات المخربة والنداءات الهدامة التي تمس بالأمن الروحي والديني للمغاربة. إننا إذ نُثمِّن موقف المغرب الرافض لتنصير أبنائه وأطفاله، نرى تقاعسا وتهاونا إزاء أبناء جلدتنا الذين يريدون إشاعة الفاحشة والفساد في المجتمع، ويعتزمون ضرب الفضيلة بالرذيلة ويقصدون استبدال المحاسن الأصيلة بالمساوئ المستوردة. إن هذا المقال لم يكن ليكتب لو بقي الأمر في إطار الحرية الفردية والاختيار الشخصي، أما وقد أعلن أصحابه عن أنفسهم ودعوا الناس لمحاباتهم، وطلبوا من الملأ مناصرتهم, فقد انتقل الخطب للمجال العام الذي يلزم التحدث فيه وتبيان الأمر منه، ولذا فإنه كان لابد من الكتابة للتوضيح وللبيان ولسنا هنا لمحاكمة أيٍ كان؛ ليس العيب أن يقع الإنسان في الخطأ، وباب التوبة مفتوح للجميع،لكن العيب والعارهو أن يفتخر المرء بخطئه ويعتز بخطيئته فهذا مما لا يُسكَت عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول يافلان،عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عليه" رواه البخاري ومسلم. والإسلام بتسامحه بين لنا أن الخطأ والإثم قد يصدران من كل أحد وأن المخطئ معافى (من العافية) ما لم يجاهر ويعلن ويفتخر بخطئه وذنبه بله دعوة غيره لمُجونه ولفسقه، لأن الجهر بالمعصية علاوة على كونه استخفافا بأوامر الله هو نشر لها ودعوة إليها وتسويق لشرها، ورسول الله أوصانا بقوله:" اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله". المجاهر معاند يدخل في مجال الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وإن من المجاهرة والمعالنة ما نراه الآن في وسائل الإعلام والاتصال ومنها بل من أولها الأنترنت، فمن دعوة لإباحة الخمر، إلى دعوة للتضامن مع الشواذ،إلى المطالبة بالإفطار جهارا في رمضان، إلى خلق مجموعة في الفايس بوك لرد الاعتبار-على حد قولهم- لأبي لهب لعنه الله وهكذا دواليك. وأخيراً، إن من الأمور التي يحار المرء في تفسيرها انقلاب الأشياء إلى أضداها فيصبح حكم الأمر العادي الطبيعي حكم الأمر الخارق للعادة المنافي للقانون والعكس صحيح،وهو ما نعيشه أحيانا وكأننا نعيش في شاطئ للعراة تماما يصبح فيه العُري هو الأصل واللباس هو الشاذ، ويضحى التكشف فيه فضيلة وتحضرا والتستر فيه رذيلة وتخلفا، ويصير العاري المُنكر على غيره دون حشمة ولا حياء، ولا خجل ولا وجل مثله مثل البُغاث إذا قويت شوكته ، وقديما قيل إن البُغاث بأرضنا يستنسر .