أعاد مقتل الطالب الحسناوي الجامعة المغربية إلى واجهة الأحداث وإلى ساحة النقاش الفكري والسياسي والإعلامي، وتعددت المقاربات التي تناولت العنف الجامعي بين الفصائل الطلابية، كما اختلفت الحلول المقترحة لمعالجة هذه المعضلة، وكلها أو جلها مقبولة وممكنة، غير أن المقاربة الأمنية التي تروج لها السلطة كحل ناجع وحيد وأوحد تظل عاجزة من -خلال تجارب التاريخ- عن احتواء الوضع، إن لم تحكمها وتوجهها مقاربة شمولية يتداخل فيها الاجتماعي بالسياسي والعلمي والفكري بالثقافي، وفق رؤية ديمقراطية تقبل بالاختلاف والحوار والتعايش. ومن أهم مداخل هذه الرؤية الإقدام على مراجعات فكرية وثقافية تعتبر ضرورة ملحة للقضاء على كل أشكال العنف والإقصاء والكراهية، وامتلاك الشجاعة الأدبية والفكرية للقيام بنقد ذاتي يكون مقدمة لمصالحة شاملة. والإسلاميون باعتبارهم أحد أهم مكونات الحركة الطلابية هم أولى الناس بالإقدام على هذه الخطوة، ونتمنى أن يكون هذا المقال مساهمة في ذلك. أكثر من ربع قرن مضت على الوجود الإسلامي في الجامعة المغربية[1]، وهي –في نظري- مدة كافية جدا لتقييم التجربة من أجل تثمين الإيجابيات من جهة، و لوضع الأصابع على مواطن الضعف والخلل من جهة أخرى، قصد إصلاح النقائص للمضي قدما بالعمل الطلابي الإسلامي لأنه محط الأنظار إذ يعتبر نجاحه أو فشله اختبارا للخيار الإسلامي في الشارع السياسي إلى حد بعيد... ولئن كان هذا التقييم يقتضي صراحة وموضوعية علمية فهو يتطلب منا جرأة وشجاعة بنفس القدر، مع الأخر ومع الذات لننصف كل الأطراف الفاعلة في الساحة خاصة أن الضرورة صارت ملحة الآن إلى توحيد الصفوف داخل الجسم الطلابي ولم الشمل لإنقاذ الجامعة المغربية من أجواء التمييع والعسكرة التي تعيشها وتدارك ما يمكن تداركه حتى تستطيع القيام بأدوارها العلمية والفكرية والتنموية المرجوة، لكن هذا الهدف النبيل والمطلب السامي لتوحيد الصفوف وتنسيق الجهود لا ينبغي بأي حال من الأحوال، أن يدفعنا إلى التسرع والاستعجال الذي يفضي حتما إلى صياغة حلول جزئية أو ترقيعية سرعان ما تنتج عنها كوارث فيما بعد.إذ أنه لابد قبل أي محاولة توحيدية من قراءة دقيقة لكل مكونات الساحة الطلابية قراءة متأنية ورزينة بعيدة عن التنابز بالألقاب والتقاذف بشتى أنواع النعوت من أمثال الإقصائية والظلامية أو عدم الشرعية - وغيرها... ولابد أيضا لكل فصيل أن يراجع أوراقه ويقوم بالوقوف مع ذاته. صادقا ليمارس ما يسمى "بالنقد الذاتي" حتى يحدد مطالبه وشروطه بدقة فأكبر مشكلة تعاني منها الفصائل الطلابية الآن، هذا إذا ما استثينا فصيلا أو فصيلين يمتلكان برنامجا واضح المعالم على المستوى السنوي والمرحلي، هي أن أغلبها لا تعلم ما تريد أو لا تمتلك برنامجا تفصيليا. وهذا ينتج عنه بالطبع تضارب في المواقف وغموض في الرؤى حتى بين أبناء الفصيل الواحد، فالمفروض على الفصائل إذا أن تتقدم للجماهير الطلابية بمشاريعها وأن ترضخ لقرار الطلبة واختيارهم انسجاما مع مبدأ الديمقراطية الذي تتبناه أوطيم وارتضاه الجميع ،كما ينبغي على الفصائل الطلابية أن تكون واقعية في التعامل مع خصوصيات الواقع الطلابي. من خلال استيعاب مجموعة من قواعد لا يمكن حجبها لأنها واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار، ولأن الإقرار بها في رأيي هو أول خطوات الحوار لتحقيق التقارب بإذن الله. 1- القاعدة الأولى: رحمة الاختلاف علمتنا حقائق الواقع وتجارب الحياة ومجريات الأمور، أنه ليس في مقدور أي فصيل طلابي أن ينفرد بالقيادة وتأطير الساحة الجامعية مهما بلغت قوته تنظيميا وعدديا وسياسيا. ومهما تراكم لديها من تجارب، ورغم ما يحظى به من دعم جماهيري ومصداقية لأنه سرعان ما يسقط فيما يمكن أن نطلق عليه "بالتآكل الذاتي" فالأشياء تعرف بنقائضها وأضدادها فلمعرفة صحة أو أصالة أو صواب أي فكرة أو برنامج لابد من تعدد الاختيارات ليتم الترجيح وتفضيل رأي على الأخر ووجهة نظر على أخرى. ولأنه من شأن التعدد أن يكون دافعا للابتكار والتجديد في الأفكار والوسائل كما من شأن التنوع والاختلاف أن يدفع إلى التنافس ويساعد على إذكاء جذوة الحاجة إلى التوحيد والتنسيق لدى كافة الطلبة باختلاف مشاربهم وهذا هو مربط الفرس لهذا من المهم أن ننظر إلى الاختلاف نظرة ايجابية ونجعل منه عنصر قوة لا عنصر ضعف فربنا سبحانه و تعالى يقول: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ فإن لم نستطيع أن نكون من المرحومين فلا أقل من أن نستفيد من رحمة الاختلاف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شر عظيم من خفاء الحكم ولهذا صنف رجل كتابا سماه (كتاب الاختلاف) فقال له الإمام أحمد سمه: (كتاب السعة) وإن الحق في نفس الأمر واحد و قد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه. وفي كتاب "المدخل إلى السنن الكبرى" نقل الإمام البيهقي عن القاسم بن محمد قوله: اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لعباد الله، وفيه أيضا عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول: ما سرني لو أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا، لم تكن رخصة، وفيه أيضا عن يحيى بن سعيد أنه قال: أهل العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحلل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا. وقال عبد الله الفارسي: هذا في الأمور الاجتهادية التي يسوغ فيها الاجتهاد وليست في الأمور التي وضح فيها النص صحة ودلالة. 2- القاعدة الثانية: اقسطوا هو أقرب للتقوى. حين نؤكد على تقبل الاختلاف واستيعابه ،لأنه أول خطوات الحوار والتعايش، فهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أننا نغمض أي فصيل من الفصائل حقه أو ننكر ما قدمه للجامعة المغربية وما أسهم به من عطاءات وتضحيات في الساحة الطلابية، منذ تأسيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب والى الآن. وإن كنا نركز في هذا المقال على التجربة الإسلامية، التي دشنت بدخولها في أواخر الثمانينات عهدا جديدا أو مختلفا إلى حد المفاصلة بين مرحلتين من مراحل الحركة الطلابية في تاريخ المغرب: 1- المرحلة الأولى: تميزت بسيطرة طلبة التيار اليساري بمختلف مكوناته على قيادة وهياكل الإتحاد الوطني لطلبة المغرب وهي مرحلة طبعت بعدة خصائص أهمها الراديكالية والعداء المطلق لما هو غيب ودين ولسنا بحاجة إلى التدليل على ذلك فأدبيات هذه الفترة زاخرة برفض لكل أنواع [الرجعية والظلامية] إلى درجة يحرم فيها الطلبة من ممارسة شعائرهم الدينية وعلى رأسها الصلاة حيث لم يكن يجرؤ أيا كان على افتتاح حديثه باسم الله فضلا عن الأذان والصلاة... 2- المرحلة الثانية: دشنتها الحركة الإسلامية حيث لبست خلالها الجامعة المغربية رداء الإسلام ونزعت عنها ثياب الارتداد الديني ومعاداة الإسلام، ولم يكن ذلك أمرا سهلا فقد قدم الإسلاميون -العدل والإحسان- عددا من التضحيات العظيمة وهذه هي حقيقة لا يستطيع إنكارها أي أحد .. فشهداء الفصيل عديدون وسجناؤه أكثر. ولائحة المعتقلين والمخطوفين والمعذبين والجرحى أكبر وأكثر من أن تحصى ليس المقصود بهذا القول أن يجعل الإسلاميون من هذا تكأة أو سببا لاستجلاب المصداقية أو الحصول على المشروعية التاريخية –كما تفعل بعض الحركات السياسية (في العالم العربي التي تشتري بالتضحية ثمنا قليلا)- ولكن هذا من باب الشهادة التاريخية التي يجب على أي قارئ منصف أو باحث الإدلاء بها لله وللأمة وللتاريخ ومن باب الاعتراف للناس بفضلهم وهذه قيمة الفضلاء من الناس. وهي أيضا أولا وأخرا من باب الشرع والدين خاصة ونحن بصدد الحديث عن التجربة الإسلامية فأولو السابقة في الإسلام –وفي ميزان سيدنا عمر رضي الله عنه- المرء وسابقته وغناؤه في الإسلام مقدمون ومعتبرون، يقول الله تعالى": لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير". هذه مزية وسابقة ينبغي لأبناء الحركة الإسلامية أن يقدروها حق قدرها لهذا الفصيل الذي بفضل الله وتأييده وبسبب ما قدمه بنوه وبناته من تضحيات جمة وما يقدمونه الآن صار لأبناء التيار الإسلامي موقع قدم تحت شمس الجامعة وارتفع الأذان عاليا وأقيمت الصلاة واهتدى إلى الله أفواج وأفواج من الطلبة والأساتذة وأنعم به من مكسب عظيم... فلا ينبغي أن يشغلنا اختلاف الانتماء أو الانتصار لأحد الفصائل عنا مجانبة القسط واحترام آداب الشرع وأحكام الدين فالاعتراف بالفضل لأهل الفضل والسبق لأهل السبق خلق رفيع. 3- القاعدة الثالثة: الحد بين الواقعية والمبدئية الاقتناع بالمبدأ والإيمان بصوابه وصحته والدفاع عن ذلك بكل الوسائل المشروعة شيء طيب ومطلوب لكن أن يتحول هذا الإيمان إلى استخفاف برأي الآخر وتحقيره وعدم إعطائه حقه من الدراسة والتحليل والتمحيص. إلى إعتزاز جماعي مرضي وعدم احترام الغير فهذا أمر مذموم للغاية فعلى الفصائل أن تترك مساحات للحوار باحتمال الخطأ في تصوراتها أو على الأقل قبول رأي الأخر باعتباره يحمل جزءا من الصواب من خلال استحضار القاعدة الحوارية التي ثمنها فقهاؤنا الكرام رحمهم الله "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، فالمرونة أمر حيوي ومطلوب لأية حركة تغييرية والمرونة في التعامل والحوار وقبول الأخر لا تعني بحال من الأحوال "الميوعة" أو التخلي عن المبادئ وعدم "توطين" النفس كما ورد في الحديث الشريف،يوضح لنا حدود هذه "المرونة" موقفين من مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أوردتهما السيرة النبوية العطرة: أ-الحد الأول موقفه صلى الله عليه وسلم من قريش حين ساوموه وهددوه ليترك الدعوة إلى الله ونشر الإسلام فقد روى ابن هشام في سيرته: "مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه ثم شرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، فتذامروا فيه وحض بعضهم بعضا عليه ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى ، فقالوا له يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين أو كما قالوا له. (ثم) انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه. فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني، فقالوا لي كذا وكذا فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق قال فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء أنه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته قال ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب فقال أقبل يا ابن أخي، قال فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدا" . قمة الثبات على المبادئ خاصة إذا علمنا ظروف هذا الموقف فالمبادئ لا مساومة ولا تبرير فيها. ب- الحد الثاني لهذه المرونة: صلح الحديبية بكل مراحله والقصة مشهورة في كتب السيرة ولعل ابرز معالمها رجوعه صلى الله عليه وسلم دون أداء فريضة الحج. ومحوه لاسمه الشريف وفي صلح الحديبية دروس وعظات عظيمة في المحبة والأدب مع الجناب الشريف والطاعة إن في ذلك لعبرة لمن يعتبر والأمثلة كثيرة. نخلص من خلال هذين الموقفين أنه لابد من تنازلات مرحلية لأي حركة تغييرية، ولا يعني كونها على الصواب وعلى الحق أن تتصلب على مواقفها، فأول خطوة على طريق التنازل هي القبول بالحوار مع الأخر حوارا جادا ومسؤولا يبحث عن نقط الالتقاء ويؤجل القضايا، المختلف فيها إلى حين لأن الزمن كفيل بتقريب البعيد وتيسير العسير المهم أن تكون الإرادة صادقة إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما وعلى كافة الأطراف التحلي بالصبر والتخلي عن "حوار الطرشان" من جهة وحوار المجاملات المعسولة من جهة ثانية لأنه إذا كان النوع الأول يضر بالغرض لكونه يسد كافة أبواب التواصل والاتصال لأن كل طرف يستمع لنفسه فقط، فالنوع الثاني أي حوار المجاملات يجعل من الحوار ونتائجه بناء هشا لا أساس له صحيحا يقيه الانهيار العاجل، نعود إلى صلح الحديبية لنقرأ كيف أن سهيل بن عمرو ممثل قريش كان محاورا حاسما لا يجامل في قضية قومه وحزبه قال النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا علي كاتب وثيقة الصلح "اكتب بسم الله الرحمان الرحيم" قال سهيل: أما الرحمان فو الله ما أدري ما هي ولكن أكتب باسمك اللهم فقال المسلمون والله لا نكتب إلا بسم الله الرحمان الرحيم، فقال النبي صلى الله عله وسلم: أكتب باسمك اللهم ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن أكتب محمد بن عبد الله فقال رسول الله: "والله إني لرسول الله إن كذبتموني أكتب محمد بن عبد الله" (في رواية مسلم فأمر علي أن يمحوها فقال علي والله لا أمحوها فقال رسول الله صلى الله عليه سلم أرني مكانها فأراه مكانها فمحاها). رفض سهيل بن عمرو أن يكتب بسم الله الرحمان الرحيم وأن يكتب محمد رسول الله وهذا موقف ينم عن جدية المحاور وعدم تنازله في قضايا تراها قريش جوهرية في حين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدقق في قضايا تعد شكلية أو ثانوية مع الغرض من الحوار الذي هو تحقيق الصلح و حقن الدماء، فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم حذف اسمه الشريف وإن قرر المبدأ وأكده "والله إني لرسول الله وإن كذبتموني" لم يكن الغرض من هذا الحوار إقناع قريش برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه قضية أخرى فالمعطى الواقعي هو أن قريش كافرة مشركة ومع ذلك تريد الحوار في قضية محددة هي رده عن الحج وقريش أيضا تستوعب هذا المعطى الواقعي وتفقهه جدا لأنها تعتبر المسلمين قوة لا يمكن تجاهلها أو إقصاؤها فهم طرف في الحوار ورقم مهم في المعادلة رغم الاختلاف العقدي الجذري.الأفكار المتصلبة والعقول المتحجرة لا مكان لها ولا اعتبار لها في مقياس الإسلام ولا اعتبار أيضا لمن يشطر العالم شطرين شطر صائب وأخر خائب في زعمه. قد مضى زمان كان يرى فيه البعض الرأي المخالف خطأ -إن لم نقل- خطيئة، وأقبل زمان آخر ينبغي أن يكون النقاش فيه ليس بمقياس الخطأ والصواب وإنما بمقياس الصائب والأصوب والحسن والأحسن، فيكفي كل الاجتهادات أنها داخل الإسلام، لنسلم لها ونقبلها مرجحين بعضها على بعض. وليكن شعار كافة الإسلاميين من الطلبة قول الإمام المجدد حسن البنا رحمه الله "فليعاون بعضنا البعض فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا البعض فيما اختلفنا فيه "نقط الخلاف قليلة جدا بين أبناء الحركة الإسلامية والتوحيد بينهما اختيار إستراتيجي وضرورة واقعية ومطلب شرعي" فنسأل الله أن يكشف عنا بلاء الفرقة" فلا وحدة إلا بتنازلات جدية من كافة الأطراف ولا تنازلات إلا بحوار جدي ومسؤول أمام الله والأمة والتاريخ ولابد من التأكيد أن الرغبة في التوحيد لا تدفعنا إلى التسرع فرب بناء يبنى على عجلة ينهار على عجلة. فالتدرج سنة كونية وحكمة شرعية يتعين مراعاتها، فكما قال الإمام العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه لابنه "ان الناس ان حملتهم على الحق جملة واحدة تركوه جملة واحدة " هذا إن كنت على الحق، فكيف بك إن كان رأيك وجها من وجوه الحق فقط. 4- القاعدة الرابعة: "سرطان الغرور الجماعي" الغرور في حق الفرد داء خبيث يسري سريان السرطان في الجسم فلا يبقى على الدين ولا المروءة والإنسانية، وهو إذا كان في حق الفرد منقصة ومبغضة فهو في حق الجماعة أبغض وأقبح وأفظع. فأخطر ما يمكن أن تعاني منه الحركة الإسلامية هو ما يمكن أن نطلق عليه "الغرور الجماعي" الذي يصيب أي جماعة في المقتل لأنه بكل بساطة يؤدي إلى تضخيم "الأنا"، وإذا تضخمت هذه الغولة لم تستمع إلى رأي الأخر ولم تحترمه. وصارت لا ترى العالم إلا من الداخل من خلال قراءة مغلقة يستحسنها أبناء الفريق الواحد ويؤيدها ويزينها بعضهم جملة وتفصيلا كل حزب بما لديهم فرحون . دون أن يمتلكوا الجراءة على النقد والتحليل لأن احتمال الخطأ غير وارد أساسا فالمحيط الذي يعيشون داخله يطبعهم بوجهة نظر وحيدة مسيطرة والأمثلة على هذا الأمر أكثر من أن تحصى، حتى إن هذا الغرور الجماعي لا يكتوي بناره الآخر "المفترض". بل سرعان ما يجد أبناء التنظيم الواحد ريحه هذا إن لم يكتووا بناره، حين يفشو فيهم الاستبداد بالرأي والقرار وتضيق حويصلاتهم بالرأي المخالف أو حتى النقد الملاطف، فتغيب الشورى وتختفي المناصحة وتموت المحبة وتذوي، فإذا من نذر نفسه لمجابهة الظلم -في زعمه- صار طاغوتا صغيرا وتلك أول خطوة في طريق صناعة الطغاة. نجعل مسك الختام هذه الكلمات النيرات للسيد المرشد الوالد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى من رسالته "إلى الطالب والطالبة". "أنتم الطلبة المومنون والطالبات تحصَّنوا وحصِّنوا الناس بعقيدة التوحيد، تخلقوا بأخلاق المومنين والمومنات. كونوا أشِحاء بوقتكم، لا تضيعوه ولا تضيعوا وقت غيركم في مناقشات ومُحادّات عَقيمة. ... تفَادَوا الصدام مع الطلبة الصادقين، خاصة الإسلاميين... لا توهنوا قواكم في الصراعات الهامشية بينكم، فمسؤولياتكم المستقبلية تجلكم أن تبتذلوا أنفسكم في الخصامات الصغيرة. تحلّوا بالواقعية في مطالباتكم النقابية وشعاراتكم، لا توغلوا في المبالغات والأوهام..... توجيه كتاب ربنا وسنة نبينا أن نلتقي ونتعاون مع ذوي المروءات من الناس. نعترف لكل فاضل بفضله ما دام يقول ربي الله. بتعبير العصر : نلتقي ونتعاون على صعيد القيم المشتركة ما دام الناس يحترمون ديننا. ويصُون المصالحَ بَيننا ذمم مرعية، وعهود مقضية. الهوامش: [1] نخص في هذا المقال الفصائل الإسلامية، على أنه لنا كلمة مع باقي الفصائل في مقالات قادمة إن شاء الله تعالى.