من دون العودة إلى القرار التحكيمي الصادر عن هيئة الإنصاف والمصالحة، لفائدة القيادي في حزب العدالة والتنمية، والناشط الحقوقي في منتدى الكرامة لحقوق الإنسان الأستاذ عبد العالي حامي الدين، في إطار تفعيل توصية هذه الهيئة بخصوص جبر الضرر الفردي لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبت خلال الفترة الممتدة بين 1956-1999... بالله عليكم، هل يحق من الناحيتين القانونية والدستورية، لمن يزايدون على الأستاذ حامي الدين بدم بعيسى آيت الجيد، انتهاك قرينة البراءة المنصوص عليها في كل من الدستور والقانون والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان؟ كدارس قانون، لا يمكن لي على الإطلاق، أن أرجح في التعاطي مع مقتل الطالبين الحسناوي وآيت الجيد، القناعة السياسية عن القناعة الدستورية والقانونية، وإلا فأي معنى وأي محل لسنوات التحصيل العلمي في القانون من الإعراب؟ الانتصار للمقاربة الحقوقية التي تتأسس على القوانين والدستور والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، لا يعني بالضرورة أنه انتصار لحامي الدين، أو للحزب الإسلامي الذي ينتمي إليه، بل على العكس من هذه الرؤية الضيقة للأمور، الانحياز لهذه المقاربة، هو انحياز للقانون وللدستور المستفتى حوله ولفلسفة العدالة الانتقالية التي تبنتها الدولة في بداية حكم الملك محمد السادس. هناك فرق شاسع بين من يؤسس آرائه على المقاربات الواقعية والعلمية والقانونية والدستورية بطريقة عقلانية لا وجود للعاطفة فيها، وبين من يجمد عقله، ويطلق العنان لعواطفه الجياشة، والتي يتم شحنها من قبل مقتنصي الفرص، لصب الزيت على النار، وإثارة الزوابع لدفع الدهماء والغوغاء لانتهاك حريات المواطنين وكرامتهم وأمنهم وأمانهم الشخصي لاعتبارات لها علاقة بالتنافس السياسي غير الشريف. الأستاذ حامي الدين، بغض النظر عن مسؤولياته السياسية والحقوقية والمدنية، يظل مواطن مغربي له حقوق وعليه واجبات، وحقوقه تقتضي بحكم القانون والدستور احترامها وصيانتها من كل أشكال الإرهاب الفكري والسياسي. بنعيسى آيت الجيد رحمه الله، قتل خارج الحرم الجامعي مند أكثر من 20 سنة، والقضاء قال كلمته في الجريمة التي أزهقت روحه، والأستاذ حامي الدين تم جبر ضرره الفردي عن السنوات التي قضاها في السجن بسبب هذه الجريمة، في إطار تفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، التي وافق الملك على تقريرها الختامي الذي تضمن توصياتها في مجال جبر الضرر الفردي والجماعي والحكامة الأمنية واستكمال البحث والتحري في الملفات العالقة والإدماج الاجتماعي وتسوية الوضعية الإدارية والمالية للضحايا الذين لا زالوا على قيد الحياة لماذا كل هذه البهرجة، إذا كان القرار التحكيمي الذي صدر عن هيئة الإنصاف والمصالحة " هيئة غير قضائية" لجبر ضرر حامي الدين عن السنوات التي قضاها في السجن قرار موقع من طرف يساريين عاشوا مخاض المرحلة التي قتل فيها بنعيسى آيت الجيد؟ هل تواطأ الرفاق في الهيئة مع حامي الدين ومع حزبه لتبييض الجريمة التي استهدفت الطالب القاعدي؟ كفى من ترهيب الناس ومصادرة حرياتهم، وتحقير أحكام القضاء، وتبخيس مقررات الهيئة، وانتهاك قرينة البراءة المنصوص عليها في الدستور والقانون والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان..؟ في مقالته المعنونة ب" لن ترهبونا..." جزء ممن اهتموا بها لغرض في نفس يعقوب كما يقال، وقفوا فقط عند جملة "بيننا وبينكم الجنائز"، وهي الجملة التي تم إعطائها تأويلات سلبية كثيرة، بل هناك من اعتبر تأويله، حقيقة مطلقة ويقين لا يقبل الشك !. شخصيا، عندما قرأت مقالة الأستاذ حامي الدين، والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال قراءتها خارج سياقها الخاص والعام، توقفت عند أشياء كثيرة بعيدا عن هذه الجملة " "بيننا وبينكم الجنائز" التي تحتمل أكثر من تأويل. مقالة الأستاذ حامي الدين، مقالة تنطوي في مضمونها على رسائل كثيرة، منها الواضح، ومنها المرموز، ومنها المشفر. هناك أفكار في المقال واضحة وضوح الشمس، لهذا استغرب كيف أن البعض تجاوزها رغم أهميتها من الناحية السياسية، ليقف عند ويل للمصلين، في محاولة جلية لتسطيح وعي المغاربة وإظهار حامي الدين كما لو أنه مجرم وسفاح وعاشق للدم !!! لنقولها بصريح العبارة، هناك أطراف سياسية سيّست جريمة قتل الطالب الحسناوي، واستعملت كل الوسائل المتوفرة لديها، لصب الزيت على النهار، بل منها من استغل جريمة مقتل الطالب الحسناوي لإعادة الجامعة المغربية والنقاش السياسي حولها إلى الوراء لعقدين من الزمن، والهدف بطبيعة الحال، لا يخرج عن نطاق التدافع السياسي غير الشريف.. كيف يمكن تحميل المسؤولية المعنوية في جريمة قتل الطالب الحسناوي إلى الأستاذ حامي الدين بمبرر شبهة تورطه في جريمة قتل بنعيسى آيت الجيد؟ متى كان آيت الجيد ينتمي لتنظيم البرنامج المرحلي الذي نفد جريمة القتل في حق الحسناوي حتى تتم هذه المقايضة الدموية الجبانة؟ لماذا عاد بنا البعض للحديث عن الرسالة التي بعث بها السيد عبد الإله ابن كيران إلى وزير الداخلية السابق إدريس البصري؟ لماذا تمت العودة أيضا إلى حوار الخلطي الذي أجراه مع الصحفي والصديق أنس مزور؟ لماذا أرادوا منع حامي الدون من الدخول إلى الحرم الجامعي وأي منطق هذا الذي استندوا عليه؟ لماذا تم منع حفل تأبين الطالب الحسناوي في مسرح الجريمة من قبل التنظيم الذي ينتسب إليه؟ عندما أستمع بكل صدق لعدد من البرلمانيين، يحملون من داخل مؤسسة دستورية، الأستاذ حامي الدين مسؤولية الجريمة التي وقعت في فاس بأسلوب "متشابه" بمبرر أن حامي الدين موضوع شك أو شبهة في جريمة اغتيال بنعيسى آيت الجيد، ينتابني إحساس بأن هناك خيط ناظم يجمع بين عدد من الأطراف السياسية، لتبييض الجريمة الإرهابية وتبرير أفعال الجناة وكأن جريمة قتل الطالب الحسناوي جريمة فيها نظر !. ليس هناك ما يمنع حامي الدين من الذهاب إلى الجامعة دستوريا وقانونيا، ومن يريد لحامي الدين أن يلزم بيته، فهو في الواقع يعبر عن فكر استئصالي ومتطرف ومشجع للإجرام والإرهاب. هناك مقرر تحكيمي لجبر ضرر حامي الدين عن السنوات التي قضاها معتقلا في قضية آيت الجيد، وهناك قرارات قضائية بحفظ الشكايات التي قدمت من جديد ضده بعد أكثر من 20 سنة من وقوعها. فلماذا يراد إسكات صوت حامي الدين وقتله حقوقيا وسياسيا من خلال دفعه إلى الحد من نشاطاته السياسية والجامعية والحقوقية بمبرر الشبهة أو الاتهام. متى كان المتهم مدانا؟ من يريد منا أن نحلل جريمة قتل الطالب الجامعي المنتمي لمنظمة التجديد الطلابي، الحسناوي، وفق أهوائهم ونزواتهم الإديلوجية والسياسوية المريضة والمهزوزة...أقول لهم لا تراهنوا على السراب. الإرهاب سلوك مدان، أيا كانت الجهة التي ترتكبه وتحرض عليه، إسلامية أو يسارية أو أمازيغية أولا دينية أو علمانية... نحن لسنا من عشاق مقايضة الدم بالدم. لأننا بكل بساطة لا نؤمن بالإرهاب ولا نطيق من يجله عقيدة له. عندما تعرض جنودنا للقتل في "اكديم ازيك" وتم التبول على أجسادهم الطاهرة، لم نصمت حينها تجاه هذا المصاب الجلل، وقمنا إبانها بإدانة الإرهاب البربري والوحشي دون أي تردد... وعندما وقعت تفجيرات الدارالبيضاء الإرهابية التي هزت كيان المجتمع استنكرنا الإرهاب أيضا...وعندما وقعت تفجيرات الأركانة في مراكش، في ظل الحراك المغربي، تألمنا لسقوط ضحايا من جنسيات مختلفة وقمنا بإدانة الإرهاب مرة أخرى...وعندما تم استهداف برج التجارة العالمي في نيويوركالأمريكية كتبنا ونشرنا في الجرائد مقالات عبرنا فيها بشكل واضح عن موقفنا من الإرهاب الأعمى بغض النظر عمن تكون أمريكا...وعندما وقعت أحداث مدريد قمنا بنفس الشيء... وعندما وقع الانقلاب في مصر على الشرعية الديمقراطية وتم قتل المواطنين في ميدان رابعة العدوية بدم بارد لم نسكت عن الجريمة رغم بعد المسافة، رغم أن هناك أطراف لم يرق لها هذا الأمر، وكانت ربما تنتظر منا غض النظر أو مسايرة الإرهاب ودعم جرائم القتل في حق المدنيين. هناك فرق كبير بين من يتمهن السياسة حرفة، وبين من يكتب ويحلل الوقائع والأحداث بعقلانية وبعيدا عن دواخله وهواجسه السياسية أو الحزبوية الضيقة والمريضة.. نحن من الجيل الذي تربى في مدرسة سياسية قدمت من أجل حق الإنسان المغربي في الحرية والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية، قافلة من الشهداء وقوائم لا تعد ولا تحصى من المعتقلين الساسيين الذين عانوا الويلات ونكل بهم في سجون العار - خلال الفترة التي تم تبييض جرائمها السياسية من خلال هيئة الإنصاف والمصالحة التي لا زالت أهم توصياتها موضوعة في الرف- وتعرضوا لأبشع وسائل التعذيب الممنهج مند التأسيس في 25 يناير 1959 وبعد المؤتمر الاستثنائي لسنة 1975 وفي عقد الثمانينات وأوائل عقد التسعينات. المدرسة التي تربينا فيها سياسيا، وتشبعنا بقيمها ومبادئها المثلى في الأوراش الوطنية التي كانت لها عمقها التربوي والنضالي، مدرسة عانى مؤسسوها من النفي واللجوء، وتعرضوا لمحاكمات قاسية مند الخمسينيات. مدرسة أنجبت المثقفون والمفكرون والصحفيون الكبار الذين لا يتسع المجال لذكرهم بأسمائهم جميعا. مدرسة لم تؤمن يوما بأن العنف هو الوسيلة المثلى لرد الاعتبار لدم شهدائه أو للدفاع الشرعي على النفس. للأسف الشديد، مدرستنا التي تربينا وترعرعنا فيها، تعرضت لمحاولات كثيرة لهدم بنيانها وتحطيم سقوف فصولها فوق الرؤوس، وعندما استحالت عملية الهدم لمثانة الأساس، شرعوا في تخريب جدرانها وأعمدتها الواحدة تلوى الأخرى بمعاول أبنائها والدخلاء عليها حتى تنهار جزئيا. نعم، لقد أفلحوا في إيجاد كل عوامل التعرية من تصحر فكري وجفاف نضالي، فتعرضت أساسات مدرستنا الجميلة والجذابة للتصدع، وانشقت جدرانها، وانشق كل جدار فيها على نفسه إلى شقين، وهاهم الآن ينتظرون محوها ومحو أثر وجودها بشكل نهائي، بعد أن زرعوا العبوات الناسفة في كل زواياها وأركانها.