لا تقاس قوة حزب أي حزب، بما تمتلكه أطره القيادية من "كاريزما" لغوية مفتولة، وخطاب منمق ومزوق منتفخ الأوداج، مبطور الوجنتين. ولا مما سطره من برامج تاكتيكية واستراتيجية للنهوض بالقطاعات الاجتماعية البائسة، والمجالات الخدماتية المتدهورة، ولا بفائض الثرثرة، ومستحيل الأحلام، وعصيات الأماني. قوة الحزب وصدقيته تجيء من قدرته على تصريف الكلام إلى أفعال، وترجمة الخطاب إلى إجراء عملي، يقيس الاسم على المسمى، يضع الواقع في الاعتبار، والإمكان قيد الدرس والتجربة، ويلجم التجاوز متى ما ظهر أن واقع الحال يكذب ديباجته اللغوية، وتحبيره السياسي، ورهانه الإيديولوجي. ولكي نضع برنامجا حزبيا مدققا يراعي الواقع والإمكان، يتعين أن نَتَحَوَّطَ من الاندفاع السياسوي اللحظي، والتحدي الفارغ الذي يستدعيه التنابز والتنافس اللفظي. يتعين، ثانيا بل أولا، أن نتقوى بالمثقفين الحزبيين بطليعة الكوادر المنتمين إلى الخط السياسي الحزبي العام، المقتنعين برؤيته ومرجعيته وفلسفته ومبادرته. وليس غير المثقفين العضويين من هو أهل لتدقيق الأفكار، وتَقْيِيس الأشبار والأمتار. فالسوسيولوجي، والأنثربولوجي، والمتضلع في علم السياسة والقانون، والجغرافيا البشرية، والمؤرخ، ومنتج الأفكار، والكاتب والأديب، وتطبيقاته في حال تقلده مهام التسيير، وإدارة الشأن العام، شأن البلاد والعباد. ذلك أن السياسة بمعناها الضيق، بمعناها التدبيري اليومي، عابرة، سرعان ما تتبخر في أتون الصراعات الأطرافية، والمستجدات الظرفية، والطواريء الإقليمية والدولية المباغتة. أما الثقافة السياسية أو السياسة المثقفة، فأساسها النقد البناء، -وبُنْيانُها التصحيح والتقويم، وَوَزْن الخطى والحراك بحسبان الاشتراطات والاقتصادات الهشة، والانحباسات المفاجئة، وما جريات الواقع، وبندول التقلبات، وفرملة تطبيق البرنامج من لدن من يخالف تخطي الحد الممنوح، والحرية المخطوبة، والخطوط الحمراء. أما الخطوط الحمراء فليس غير النبش في ما ينبغي النبش فيه، في سر استئساد عصابة، واسترناب مع استيطاء أخرى، ما يعني طرح مسألة العدالة الاجتماعية، والحق في الثروة الوطنية، والمساواة التامة أمام القانون، وفي الحقوق والواجبات، على مائدة الحوار، وإشعالها لجهة وضع حد للاحتكار، والكُومْبَرادُورْ، والأوليغارشيا. وفي هذا مَا يَشِي بأهمية، وقيمة الحزب العضوي، الحزب المرفود بنهر الفكر الحي، والسياسة "النفعية" الإيجابية التي تصب في صالح السواد الأعظم من المواطنين، في صالح المستضعفين، والعاطلين عن العمل، والمهمشين المبعدين عن منابع الرزق، والمُوَاتِي من ظروف الاستحقاق، ومَرَاقي العمل الرفيع الذي يقوم على أكتاف الكفاءة والعلم والنجاعة. ولانعدم أفرادا ذوي مؤهلات معتبرة في بلادنا حال دونها من نَعَتْنَاهُمْ، ونَنْتَعَتُهُمُ بسارقي الفرص، ومُسْتَفْرِصِي الظرفيات، المؤازرين بعوائل معينة ضاربة بأسهم بعيدة في "الحسب" و"النسب" و"الشرف" و"الدم الأزرق"، تلك العوائل التي تربض وتجثم كالعنقاء الأسطورية على جسد البلاد الهش، جسد البلاد المخرم الذي لم يتركوا ثقبا فيه إلا وَلَجُوهُ ، ولا ضرعا إلا حلبوه . من هنا، حيرة الأحزاب "الكبيرة" عدديا، أمام ما يجري، وقدام ما يحدث، إذ تجد نفسها متجاوزة، تفاجئها السلطة الحاكمة بين الحين والحين، ويفاجئها النشاط الهادر للنسيج الجمعياتي، ويفاجئها الحراك الاجتماعي كما هي الحال مع حركة 20 فبراير. كأنها غافلة أو مغفلة، علما أن هذه الوضعية جديدة تماما على المتتبع والمواكب، وهي وضعية غريبة عجيبة عمرها عقد من الزمان. لم نعد نَحِنُّ إلى عصر الزعامات، والأفراد الخارقين، فقد تغير الزمن، وتبدلت الأحوال، وصارت الانقلابات الفكرية، والعلمية، والتكنولوجية، والسياسية، والاقتصادية، والبيئة، عنوانا على المرحلة. مَا نَحِنُّ إليه، هو عودة الحرارة السياسية إلى المشهد السياسي المغربي العام، ومعرفة رأي الأحزاب "القوية" اليسارية والليبرالية، في الملفات الحارقة المطروحة بإلحاح في الساحة، والتي ترهن حاضر وغد البلاد ، الملفات الاجتماعية كهذا الانحباس الغريب الذي يشهده النظام التربوي التعليمي بالبلاد، والصحة العمومية من حيث نزولها عن المعدل التنموي التطوري قياسا بمن هم في صفنا أو بِمَنْ هم أدنى منا، والذين حققوا طفرة هائلة في حل معضلة التعليم، ومعضلة الصحة العمومية. وانسداد ملف الحوار الاجتماعي بدعوى الظرفية المالية، والاقتصادية بينما تعلن الحكومة أنها حققت موازنة مهمة، ومعدلا تنمويا تحسد عليه، وسط بؤس وارتباك مغاربي وأوروبي : (البرتغال – إسبانيا - إيطاليا) نموذجا. كما أن الثقافة مُصْمَتَةٌ، وشأنها شأن الغريب في البلد الكئيب حتى أن الإهمال يلفها، ويضعها ضمن سَدَّادَة خانقة، وقِمَاطٍ عليه ألف لَفَّة. أما آفة الأمية، فهي إلى تَنَامٍ واعْتِياشٍ بدليل انحجاب وزارة كاملة أو وزارة منتدبة تتابع القطاع لتستأصل شأفتها وفق مخطط مرسوم، واستراتيجية محكمة. وبدليل الهدر المدرسي الصاعق الذي يستمر غير مكترث للكلام الكثير، وغير آبِهٍ بالمديريات، والأقسام، والمصالح المركزية، والجهوية، والإقليمية التي ما فتئت تدق ناقوس الخطر، وهي تنشر المعطيات والأرقام الكاشفة لهذا النزيف الاجتماعي الخطير الذي يهدد حاضر ومستقبل البلاد بتنمية طابور الأميين، وتنمية الجريمة المنظمة. وما ظاهرة "التّْشَرْبِيلْ" التي تطير من موقع إلى موقع، وتملأ الشبكة الاجتماعية، والتواصلية الرقمية، وتزرع الرعب والخوف والفتنة إلا نموذج عن استشراء آفة الأمية، والتسرب، والهدر، وزحف القرى الفقيرة المُعْدَمة على المدن والحواضر، ما يرفع مَنْسوب البؤس والفقر، والهشاشة، ويهدد الأمن العام، والسكينة التي بات يفتقدها المواطنون في طول الوطن وعرضه. فأين العدالة؟ أين التنمية كمفهومين، وأقنومين، وقيمتين اجتماعيتين مُشَخَّصَتَيْنِ، ومبلورتين في الواقع المحسوس، وعلى الأرض الصلبة؟ أما العدالة والتنمية كحزب، كإطار سياسي إسلامي، كجمعية عمومية، كتسمية برَّاقة، وواقع متصرف يُسَيِّرُ وَيُدَبِّرُ، فشيء آخر تماما،. إذ العدالة فيه، والتنمية لديه، موجودتان بالقوة، بقوة الخطاب الإيديولوجي الإسلاموي، والدعائي التنافسي، والاستشهاري لفائدة الخط والتيار، وبقوة التصايح والتلاطف، والزعيق والليونة، واللطائف والقفشات، والتلفيظ المجاني، والتهديد بفضح الفساد والمفسدين، والتراجع عنه قبل أن تغيب الشمس. العدالة والتنمية كحزب موجود بالفعل، بفعل النزوع الديماغوجي والتبسيطي، والاندماجي "الذكي" مع الناس، مع الشريجة الأكبر من البسطاء، سريعي التصديق والإيمان والاستدراج، موجود بفعل التدين، واتكاء خطابه على السور والآيات، والأحاديث، والحمدلة، والبسملة، والحوقلة، علاوة على المواظبة والمثابرة في القيام بالصلوات والنوافل، وحضور الجنازات، والمولديات، والأسمار الأورادية، والأذكار. موجود، أيضا، بفعل "نية" طبقة متعلمة" وموظفة، لا تعمل بالنقد الخلاق، ولا بالشك والسؤال، ولا تستشرف الآفاق مقارنة ومقايسة. إنها تنأى عن صداع الرأس، وتصم الآذان عن الخطاب "العلماني" الذي "لا يؤمن" باليوم الآخر، ولا ب "الحور العين"، إنه خطاب جاف دنيوي حصري لا يقدم أملا، ولا يفتح أفقا نحو "الطوبى"، وجنة الفردوس !!. فَشَلَ حزب العدالة والتنمية في أَجْرَأَةِ خطابه وبرنامجه الانتخابوي، فشلا ذريعا، وهو فشل سياسي واجتماعي بقدر ما هو فشل مرحلة من عمر البلاد، وعمر العباد، كما هو فشل يَنْضَافُ إلى فشل الحكومات السابقة. ولئن كان فشل الحكومات السابقة متأتيا من محدودية السلطات والمبادرات، في ظل ملكية تنفيذية لها الكلمة الأولى والأخيرة في جميع المجالات، وفي ظل دستور يكبح اجتهادها وبرنامجها، فإن فشل الحكومة الحالية التي يقودها حزب إسلامي، غير مبرر، البتة، لأن الدستور المستفتى عليه فيه من الاختصاصات والصلاحيات والسلط، ما يُمَكِّنُ الحكومة من أن تنهض بالأوراش الاجتماعية، وتنهض بالاقتصاد الوطني، وبالعيش الكريم لكافة الساكنة بالبلاد، من منطلق تفعيل الشراكات الاجتماعية والاقتصادية، والمقاولاتية والاستثمارية، ومن منطلق معافاة الاقتصاد الوطني الذي لم يسجل تراجعا، ولم يتخلف القهقرى فيما تقول الحكومة وفيما تغرد وتزغرد. وإذا كان الأمر كذلك، فَلِمَ أحجمت الحكومة وحزب العدالة والتنمية، عن إطلاق التنمية العامة لتشمل كافة القطاعات، وهي القطاعات الضامرة التي تشكو من هُزال، ومرضى عُضال؟ أم أنها عابرة كالعابرين السابقين، جاءت لتضحك وتمشي، لتملأ الماعون شعيرا، وقمحا وفيرا وترْحل هانئة به، سعيدة بما حازت يداها منه بِذارًا لبنيها وذريتها وأهلها، ودرهما أبيض ينفع في اليوم الأسود. ولاشك أن حال حزب العدالة والتنمية الذي ينوء تحت هذا الاسم، الأكبر منه بما لا يقاس، والأوسع من ضآلته بما يستحيل الإمساك بأطرافه وتلايبيه، هي حالة من سبقه مع فارق الصلاحيات الدستورية الجديدة التي ينعْم "بها مقارنة بحكومتي عبد الرحمن اليوسفي، وعباس الفاسي. حال ساطعة من العجز والعي، وقلة ذات اليد، إذ أنه لا يملك السلطة، وكاريزما، تنفيذ أفكاره وخطابه، وأحلامه. وحتى إن أراد ذلك، فالعفاريت والتماسيح التي ذكرها رئيس الحكومة عن حق، تقف كأبي الهول معترضة طريق التنفيذ، وضاحكة من الأحلام "الطائشة"، والاندفاع "البِلْدُوزِرِي" غير المحسوب؟ أم أن الممسكين الفعليين بزمام السلطة والحكم، وقفوا سدا منيعا أمام هذا الحراك "العدلي التنموي"، بعد أن خبروا فقر التجربة، وقلة الخبرة، وتهافت الخطاب، وإطلاق الكلام من دون حساب. يترتب على هذا ما يُدَاوِرُهُ رئيس الحكومة بمناسبة وبغير مناسبة، من أنه يحظى بثقة الملك، وأن الملك يتصل به مُرَبِّتًا معنويا، ومشجعا، وَحَاثًّا على المُضي إلى أن تتحقق أماني وآمال الحزب الأغلبي الحاكم، وأماني المغاربة بالقياس المنطقي والتلازم. ونحن نصدق عبد الإله بنكيران، وكيف نكذب مؤمنا، منقطعا إلى الله، وإلى الشعب خادما، ومجتهدا، وَمُفِّتِقًا ألف تصور، وألف خطة لإنقاذ البلاد، وإمطار الجهات عدالة وتنمية. لكن ما بال الأشياء تراوح المكان، ما بال الإضرابات متواصلة، والاعتصامات مستمرة، والجريمة متنامية، والفقر مهيمن، والتعليم مفلس، والصحة عرجاء، والأمية مستفحلة، والهشاشة طاغية؟. ما بال الاستثمارات التي من شانها أن تنعش الاقتصاد، وتوفر الشغل والعمل والخدمات، متراجعة، أقصد الاستثمارات الأجنبية، التي تراجعت، للعلم، ب 60 في المئة؟. ومَا بَال المديونية خانقة وكاسحة إذ وصلت إلى نسبة 62 في المئة؟. أين التنمية المُدَّعاة؟، أين العدالة الاجتماعية التي يقوم عليها حزب بنكيران؟ ألسنا نرى ونبصر ونسمع، وَنُدَاوِلُ من يَفْلِتُ من قبضة العدالة، والحجة بَيِنّة عليه، على تورطه في نهب المال العام، أو في "كَمْشِهِ" بطرق مختلسة، من تحتها، في الظلام، وتحت نور الشمس الباهر؟ هل من العدل أن يستمر الفساد والاستبداد، ويستمر الفقر والحاجة والانتظار الذي تورم من فرط الانتظار؟ وهل من العدل أن تتدهور الوضعية الاجتماعية والاقتصادية للطبقة العاملة، وعموم الأجراء بشكل غير مسبوق؟ وهل هي عدالة تلك التي يَسْتَبْسِلُ نُوَّاب الحزب في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، عندما يُزْبِدُونَ وهم يتحدثون عن تزويج البنت في سن 16 – كأن عاما فاصلا بين الطفولة (15 سنة)، وبداية المراهقة، يؤهل الطفلة لأعباء الزواج، وما يستتبعه من عَنَتِ التربية، والخضوع إلى عائلة الزوج، وغير ذلك. أليس هذا اغْتِصابا مِنْ نَوَاحٍ؟ وَلِمَ يُرْفَعُ النزاع إلى المجلس الأعلى للعلماء، أليس في الأمر دِثَارٌ ديني، وكشف عن وجه الحزب الحقيقي، وجه استعمال الدين لمآرب ضيقة، يُنفس به كربا، وكبتا يعيشه أغلب أدعياء الدين و"الفضيلة" و"الورع، والتقوى إلا من رحم ربي وربك" !!. وأين التنمية؟ ما خَطْبُها؟ ما علائمها وَمَياسِمُها؟ . أرى أنها لم تعرف طريقا إلى المواطن، والوطن؟ ما خلا أوراش الملك.. وإشرافه على الاتفاقيات الكبرى ، والشراكات الاستراتيجية وهي أوراش تفاجيء الحكومة التي لا أجندة لها، ولا برنامج عمل، ولا مشروع يتغيا التكملة، وإغناء الأوراش الملكية، وسد الخصاص، ودفع غائلة الهشاشة والإهمال عن جهات وقطاعات قد لا تَطُولها يد الملك؟. أين التنمية الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والحقوقية، والتعليمية، والبيئية؟ أَيْنَهَا؟ وَلِمَ حَرَنَتْ وَشَمَسَتْ منذ أكثر من سنتين، وهي المدة التي سلختم في تدبير شؤون الناس والوطن، أم تنتظرون فرصة خَمْسية أو عَشْرِية أخرى.. للغناء والاغتناء، إذْ بَانَ أن الأمر ليس بيدكم، وأن التنمية قد تأتي من جهة، أي جهة.. إلا جهتكم؟ فلماذا تنهشون لحم الأحزاب السياسية، لحم الاتحاد الاشتراكي، ولحم حزب الاستقلال، ولحم الأصالة والمعاصرة؟ إذا كنتم لم تحققوا ما وعدتم به المواطنين في أثناء حملتكم الانتخابية، وفي أثناء مَسْكِكُم بمقاليد الحكم، والحال أن الدستور، والوضعية العربية العامة، يَسَّرا لكم ترجمة الوعد إلى واقع، والحلم إلى حقيقة، لكنكم لم تفعلوا، ولن تفعلوا. فهل بِمُكْنَتِكم، تحويل السراب إلى ماء ليرتوي الظمأى، ويشرب العطشى من عين كان مزاجها عدالة وتنمية؟ هل بمكنتكم ذلك،؟.