إذا كانت التدشينات الملكية الأخيرة بمدينة طنجة قد أكدت على وجود قناعة راسخة لدى الدولة بأن لا مفر من القضاء على الفقر والهشاشة ببلادنا، إلا من خلال وضع أسس نظام متماسك للحماية الاجتماعية يرتكز على ثلاثة مقومات يمكن حصرها في ما يلي: 1- التصدي للعجز الاجتماعي بالأحياء الحضرية الفقيرة والجماعات القروية الأشد خصاصا 2- تشجيع الأنشطة المدرة للدخل والمنتجة لفرص الشغل 3- العمل على الاستجابة للحاجات الضرورية للأشخاص في وضعية صعبة. وهي المقومات أو المرتكزات التي تلخص فلسفة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أعلن عنها ملك البلاد في خطابه السامي يوم 18 ماي 2005، وخلاله قدم الخطوط العريضة لهذا الورش التنموي الهام. بالمقابل وعلى النقيض من ذلك تماما، فإن حزب العدالة والتنمية أبان عن تعاطيه مع أوضاع الفقر والهشاشة بانتهازية مقيتة، فالحزب الأغلبي اعتبر دائماً الفئات الفقيرة والهشة منجمه الانتخابي بامتياز، لا يستطيع أي تنظيم حزبي آخر مجاراتهم في ذلك إذ لم يعد خافيا أن العمل الخيري والمساعدات العينية والمادية المباشرة للفئات المعوزة أصبحت ورقة انتخابية حاسمة في يد هذا الحزب، وبها استطاع أن يحقق فوزا ملحوظا في جميع المحطات الانتخابية التي خاضها إلى اليوم. لقد بدا واضحا للعيان أن هاته الفئات المستهدفة أصبحت قاعدة انتخابية ثابتة لهذا التنظيم، فمدينة طنجة باعتبارها أحد أكبر المعاقل الانتخابية لحزب العدالة والتنمية على المستوى الوطني، تعتبر المثال الأبرز لنجاعة ورقة المساعدات الخيرية في تجذر الحزب بهاته المدينة، معتمدا في ذلك على شبكة واسعة من الهيئات والجمعيات الموازية التي أصبحت تشكل الأذرع الموكول إليها تنفيذ هاته الاستراتيجية على أرض الواقع، مستغلين في ذلك الدعم المالي الضخم الذي تتلقاه من دول الخليج ومن بعض الهيئات والمنظمات الموازية للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين بأوروبا خاصة ببريطانيا وبلجيكا تحت غطاء دعم العمل الخيري، ناهيك عن التمويل الذي يوفره بعض الأغنياء الجدد الذين إما يتعاطفون مع المشروع السياسي للحزب الأغلبي أو يقدمون الدعم بوازع أخلاقي وديني. فجمعية العون والإغاثة، على سبيل المثال، المقربة جدا من حركة التوحيد الإصلاح ومن حزب العدالة والتنمية تلقت ما بين 2007 و2009 تحويلات مالية فاقت 20 مليون درهم، حسب وثيقة رسمية صادرة عن وزارة الشوباني، معظمها من دول الخليج، ناهيك عن الأموال والهبات غير المصرح بها و التي تتسلمها الجمعية بصفة مباشرة من دون المرور عبر التحويلات البنكية. ولكم أن تتخيلوا مدى التأثير الذي تملكه هاته الجمعية التي تتحرك تحت غطاء دعم العمل الخيري، يتجلى ذلك في الدور الحيوي الذي تلعبه أطر الجمعية، إذ يتحولون إلى جنود مجندة خلال الحملات الانتخابية، مستغلين في ذلك قاعدة المعطيات والبيانات الخاصة بجميع الأسر المستفيدة من دعم الجمعية، ولذلك لم يكن غريبا أن يسارع بنكيران وهو رئيس للحكومة، برفقة قيادات من الصف الأول لحزبه، إلى مدينة طنجة يوم 12 أبريل الماضي ليحضر مراسيم جنازة المرحوم عبد السلام بنيعيش، والد نعيمة بنيعيش القيادية بحركة التوحيد والإصلاح والمرأة النافذة بجمعية العون والإغاثة... ما يعكس أيضا رهان الحزب الأغلبي على الاستثمار الانتخابي لورقة المساعدات الخيرية، حرصهم الشديد على تأبيد الدعم المباشر للفئات المعوزة، والذي يشمل توزيع المواد الغذائية في شهر رمضان والأعياد الدينية، فقد قدرت مصادر إعلامية أن العدالة والتنمية والمنظمات الموازية لها توزع ما لا يقل عن 20 ألف قفة بمدينة طنجة وحدها خلال شهر رمضان من كل سنة، ناهيك عن اقتناء الأدوات والكتب المدرسية، شراء أضاحي العيد، المساهمة في تمويل بعض العمليات الجراحية وتوفير الأدوية للمرضى، التكفل بمصاريف ختان الأطفال، توزيع الملابس...، دون إغفال عنصر آخر على قدر كبير من الأهمية، يتعلق الأمر بمحاربة الأمية خاصة وسط النساء في استغلال مكشوف لحرمة المساجد، فالجميع يعلم أن المؤطرات المكلفات بتلقين دروس محو الأمية بمساجد طنجة أغلبيتهن الساحقة عضوات بحركة التوحيد والإصلاح، الذراع الدعوي للحزب الأغلبي. كل هاته المعطيات تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن حزب العدالة والتنمية يسعى إلى إبقاء ورقة تقديم المساعدات الخيرية للفئات الفقيرة، سلاحا في حملاته الانتخابية، فبالرغم من كون الحزب الموجود في موقع القرار منذ حوالي سنتين، وباستحضار انتماء نجيب بوليف، وزير الحكامة والمكلف بالاقتصاد التضامني، لمدينة طنجة بل هو الماسك بأسرار التنظيم الحزبي بها، وهي ذات المدينة التي تتوفر على ستة برلمانيين من الحزب الحاكم، فقد كان الأمل معقودا على الحزب الأغلبي لتنفيذ برامج سوسيو اقتصادية تستهدف الرفع من القدرات المعيشية للفئات الفقيرة، وتوفير الرعاية الاجتماعية للفئات التي تعرف وضعية صعبة أو تلك التي في أمس الحاجة للمواكبة والدعم الاجتماعي والنفسي... كل ذلك لم يتحقق منه أي شيء، فالحزب مصر على إبقاء هاته الفئات في وضعية الهشاشة لتبقى في أمس الحاجة إلى من يقدم لها المساعدات الخيرية والدعم المباشر. وبطبيعة الحال فليس هناك تنظيم سياسي أقوى بشريا وماليا ولوجستيكيا منهم، فهو الحزب الذي سيستفيد انتخابيا من تأبيد وضعية الفقر والعوز لفئات واسعة من المجتمع المغربي. الأمور واضحة اليوم بشكل لا لبس فيه، فالمغرب يتنازعه مشروعان متناقضان، الأول هو مشروع الدولة الذي يسعى إلى ترجمته على أرض الواقع الملك محمد السادس وأداته الأساسية في ذلك قطاع واسع وديناميكي من هيئات المجتمع المدني، المؤمنة بتنزيل فلسفة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بما تجسده من تشخيص معمق لواقع الفقر والهشاشة ببلادنا، وتقديم إجابات عملية وموضوعية للتقليص من حدة الاختلالات وتحسين القدرات المعيشية للفئات المستهدفة في أفق تمكينهم من مقومات العيش الكريم مع تقديم الرعاية الاجتماعية للفئات في وضعية صعبة. بينما المشروع الثاني، فينطوي على مخاطرة حقيقية بمستقبل الوطن، ويسعى لتنزيل مضامينه حزب العدالة والتنمية، ذلك أنه عوض التفكير والاشتغال على وضع استراتيجية متكاملة تستهدف تحسين الأوضاع المعيشية للفئات الفقيرة والمهمشة ، فإن الحزب الأغلبي يراهن على استغلال ورقة الدعم الخيري للفئات المعوزة، من أجل تقوية تغلغله داخلها ومن أجل تجذير قاعدته الانتخابية في أفق بسط هيمنته على المجتمع وسيطرته على مفاصل الدولة . وفي هذا السياق يمكن تفكيك الخلفيات الحقيقية لمعركة إصلاح صندوق المقاصة التي انخرط فيها بنكيران بكل ثقله في محاولة منه لتمرير الدعم المالي المباشر لملايين الأسر المعوزة، فالأمر بالنسبة لحزب بنكيران كان قضية مصيرية لأن النجاح في تنزيلها على أرض الواقع معناه أن الحزب سيمتلك مفاتيح اكتساح المحطات الانتخابية المقبلة من دون منازع. لقد أصبح من الواجب دق ناقوس الإنذار للتحذير من هذا الخطر الزاحف في صمت، وعلى الجميع أن يتحمل مسؤولياته التاريخية في هاته المرحلة الحساسة قبل فوات الأوان، فمآل الأوضاع في حالة تمكن هؤلاء من مقاليد الأمور، لن يكون مفاجئا لأي مراقب موضوعي لشؤون البلد.