القديسة "لائكية" والمحترم "استبداد" تسعى مكونات الحركة الإسلامية الوسطية أن تكون فاعلا مشاركا في الشأن العام، فهي بكل مسمياتها لا ترفض أن تكون طرفا ضمن أحزاب تعددية تعرض بضاعتها على الناس ليختار الناس ما يناسبهم، لكن ما العمل إن كان الاستبداد هو من يختار أعوانه دونا ورغما عن جميع الناس؟ فيجعل السلطة كطائر العنقاء؛ تسمع عنه ولا ترى حتى ظله؟ تفترق السبل عندها بأبناء الحركة الإسلامية حتى يعتقد أحد أطرافها أن سياسة ترك الكرسي فارغا إنما يصب في صالح أعداء الدين، وأن الواجب الانخراط في الشأن العام بالقدر المسموح به، والعمل على توسيع هامشه، وما لا يدرك كله لا يترك جله. يدخل إسلاميون غمار الساحة السياسية - بشروط المتحكمين في دواليبها- وكلهم أمل في تصحيح مسارها بالاستفادة من هوامشها، لكن الذي يحسب وحده يخرج دائما رابحا كما يقول المثل المغربي، إذ إن الدخول إلى العمل السياسي والاستفادة من مكاسبه أمر مشروط أولا في أن يبدي التنظيم ولاءه المطلق لمنظومة الدولة وبنيتها الفكرية والقانونية والمؤسسية، وهذا الولاء يتطلب البيعة غير المشروطة لهرم السلطة، وإعادة إنتاج مقولات "الآداب السلطانية" في التعامل مع أجهزة الحكم النافذة، وذلك كله يبتغي إعادة صقل الخطاب لدى التنظيم بما لا يسبب في أي حادثة طريق مع السلطة تكون مهلكة لمساره. ن المشاركة السياسية في أنظمة لا تريد أن تتزحزح عن منظومتها اللائكية له مكاسبه ومصاعبه، وإن أي خطأ في التقدير تكون له أوخم العواقب في قابل الأيام على الدعوة والتنظيم، ولعل تجربة حزب "العدالة والتنمية" التركي زاخرة بالعبر، فهو يعلن اليوم أن لا صلة له بالمرجعية الإسلامية، وأنه حزب علماني في بلد علماني، وهي حكاية لا يريد أن يصدقها العلمانيون الأقحاح في تركيا، ويرون أنه حزب يعيد الإسلام إلى الواجهة التركية من خلال جرعات تعطى بقدر، وأن نيات الساهرين عليه هي غير فعالهم، ولعل الخصوصية التركية التي غرقت في علمانيتها وانتزعت من محيطها الإسلامي ما يقارب القرن من الزمان يستلزم عدم التسرع في الأحكام، لا سيما وأن التجربة التركية أثبتت أنها علمانية.. وديمقراطية أيضا، وهي صيغة تفتقد في المحيط العربي الإسلامي حيث أقامت "القديسة لائكية" زواجا كاثوليكيا مع "المحترم استبداد" فما ثمة حلم في طلاقهما، إلا أن يأذن الله عز وجل، ووجب على كل حزب أراد أن يعترف به التأقلم مع طرفي المعادلة كليهما. الوصل والفصل بين الخطابين الدعوي والسياسي في المغرب يمنع الجمع بين الدين والسياسة بنصوص الدستور والتاريخ إلا في يد الملك باعتباره أمير المؤمنين الماسك في يده جميع السلطات، وكل الفاعلين عليهم أن يحددوا انتماءهم إما إلى الحقل الديني الذي ينفصل عن السياسي أو إلى الحقل السياسي الذي لا علاقة له بالدين، وهو أمر لا يثير إشكالا بالنسبة للأحزاب التي لا تتخذ من الإسلام مرجعيتها الفكرية والسلوكية، لكنه شرط يغير مسار التنظيم الإسلامي إن قبل به، ويحوله إلى تنظيم يقترب من الخطاب العلماني أكثر من قربه إلى الخطاب الإسلامي. إن هذه الخلاصة تجعل مكونات الحركة الإسلامية إما تسعى للنضال من أجل انتزاع حقها في الوجود القانوني ضمن شروط ديمقراطية واضحة، أو تتقرب زلفى من النظام إلى حين نيل مرضاته. وهو الاختيار الذي ارتضته "حركة التوحيد والإصلاح"، فالتحق أعضاؤها فرادى ب"الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية" سابقا، حزب "العدالة والتنمية" لاحقا، والذي سيغدو الواجهة السياسية لحركة "التوحيد والإصلاح" التي ستختص بالبعد التربوي الدعوي كما ذهب إلى ذلك الأستاذ عبد الإله بن كيران في وثيقة نشرت في "الصحيفة الأسبوعية". ع 13. مارس 2001: "فالاندماج العضوي لقطاع فاعل من الحركة، قيادة وقواعد، في بنية الحزب من جهة، والتمايز الموضوعي بين وظيفة كل من الحزب بما هو هيئة سياسية تتعاطى لقضايا تدبير الشأن العام بشكل مباشر، وحركة التوحيد والإصلاح بما هي هيئة دعوية إسلامية تربوية، وتشكل العمود الفقري للقاعدة الاجتماعية والثقافية المساندة للحزب". لقد تحولت الحركة إلى جمعية دعوية تربوية ثقافية اجتماعية... إلا أن تكون سياسية! رغم أنه بقي لديها وثيقة تحدد اختياراتها السياسية. ولا ندري أي إطار تنظيمي يفعِّل توجهاتها، هل هو حركة التوحيد والإصلاح المستقيلة عن العمل السياسي إلا باعتبارها قاعدة خلفية مساندة لحزب العدالة والتنمية أم هو الحزب الذي تشتغل هياكله التنظيمية في رسم توجهاته السياسية العامة؟ هل تنضبط سياسة الحزب بدعوة الحركة أم تنضبط دعوة الحركة لسياسة الحزب؟ إن حركة التوحيد والإصلاح أبعدت عن ممارسة السياسة كرها في مراحل أولى من عمرها، واليوم ابتعدت اختيارا وانسجاما وإيمانا واعتقادا بسلامة منظور السلطة السياسية، ومن أراد من أعضائها ممارسة السياسة فليلتحق بحزب العدالة والتنمية أو ما شابهه، أما المنتسبون إليها فلم يعودوا يقبلون بهذا الخلط منذ مدة، كما لم يعودوا يقيمون التمايز بين الدولة الإسلامية والدولة العلمانية، أو عالم القرآن وعالم السلطان، أو الإسلام الأصيل وإسلام السلطة... وقد مُكِّنوا اليوم من "المجالس العلمية "للدولة، ومن رابطة علمائها، ومن منابر الجوامع... فأثبتوا أنهم الحماة الحقيقيون "للأمن الروحي" للمواطنين بمفهوم السلطة. فهل تعيش الحركة "علمانية سلوك" من نوع آخر أم هو الفكر الاستراتيجي الذي يقدم تنازلات بسيطة من أجل كسب أعظم؟ حزب العدالة والتنمية دخل الميدان معلنا في أدبياته الأولى أنه حزب إسلامي، لكن بعد أحداث 16 ماي الإرهابية في الدارالبيضاء شذب خطابه كثيرا لاسيما وأن سيف حَلِّه، وإعادته إلى المربع الذي انطلق منه؛ كان السيناريو الأقرب في ذاك الحين. كانت الرسالة واضحة للحزب بضرورة "علمنة" خطابه، وترك الدين جانبا إن أراد أن يكون لاعبا سياسيا، أما إن حَنَّ إلى الخطاب الدعوي فما عليه سوى أن يستقيل من العمل السياسي الرسمي. من خلال مقال لبلال التليدي، أحد القيادات الشبابية للتنظيم، " حزب العدالة والتنمية.. مساهمة في تأسيس الخطاب" والمنشور في موقع الجزيرة، يلوح أن الحزب قد قطع أشواطا في فهم الرسالة حتى أصبح مرتكز دعوته على "محاولات لتشكل خطاب سياسي جديد، يقطع مع منطق الدعوة في العمل السياسي، ويجعل خطاب التدبير سابقا على أي اعتبار آخر، ولا يقطع مع خطاب التخليق، لكن يفصله عن منطقه الدعوي ويربطه بإطاره السياسي. إذ يصبح مفهوم تخليق الإدارة والحياة العامة مرتبطا بالمنطق السياسي الذي يعني الشفافية والقانونية والنزاهة والاستقامة ولا علاقة له بمنطق الدعوة الذي يشترط القرب من الله والورع والتقوى. إنه خطاب سياسي جديد، يقطع مع منطق الدولة العقائدية، ويؤسس لأرضية اللقاء معجميع الفاعلين السياسيين، ويمد جسور التواصل والحوار مع الغرب، ويطمئن الجميع بقدرة هذا الحزب على التواصل، وأهليته للتدبير من موقع المسؤولية" فعلا، إنه خطاب سياسي جديد! ولا يكتمل الخطاب إلا بالممارسة، ونقف على إحدى اقتراحات الفريق البرلماني لحزب"العدالة والتنمية" التي همت الزيادة في الضريبة الداخلية لاستهلاك الخمور، فقد جاء في جريدة المساء ع:459، قول "لحسن الداودي، عضو الفريق النيابي للحزب، الذي أسندت إليه مهمة إعداد مسودة مقترح قانون الزيادة في الضريبة الداخلية على الخمور، إن الهدف من وضع هذا المقترح هو حماية الفقراء والمستهلكين من ذوي الدخل المحدود، دون إلحاق أي ضرر بالموارد المالية لخزينة الدولة"، هل هذا هو الأسلوب الشرعي في التعامل مع أم الخبائث؟ هل هو تصالح مع الواقع البليد واستسلام له أم هو القطع مع الخطاب الدعوي والتبشير بأولى تشكلات الخطاب السياسي الأخلاقي؟ أم هي تكتيكات ذكية في استراتيجيات حرب طويلة ومعقدة؟ أم هي إكراهات الضرورة وفقه المصلحة؟ أم أن الأمر ببساطة لا يعدو أن يكون إعلانا صريحا عن انتصار منطق الساحة على خطاب الدعوة؟ [email protected] mailto:[email protected]