هل تعتقد أنه من الديمقراطية السينمائية تنظيم مهرجان سينمائي في غياب قاعات سينمائية؟ هذا سؤال مهم... نحن ننظم مهرجانات سينمائية في ظل غياب قاعات سينمائية، وهي مفارقة غريبة. لكن في الوقت نفسه لا يمكن ألا ننظم المهرجانات السينمائية حتى تتوفر لدينا القاعات السينمائية. أنا أقترح أن نواصل العمل ونستثمر القاعات المتوفرة لدينا لنحيي فيها مهرجاناتنا، بشرط أن نضع سياسة واستراتيجية خاصة بالقاعات السينمائية. ملف القاعات السينمائية ملف شائك، فكل مسؤول يلقي المسؤولية على الآخر.. ينبغي أن نتوقف عن تحميل المسؤولية للدولة، فهذه القاعات السينمائية هي ملك للخواص، وأربابها جنوا من ورائها ثروات طائلة في التسعينات، واستغلوها حسب أمزجتهم.. وهم حين حققوا كل تلك المداخيل كان من المفروض ترويجها. وهناك نقطة مهمة، فالقاعة الواحدة التي تسع ألف مشاهد تراهن دائما على فيلم واحد قد يحظى بنسبة عالية من المشاهدة أو العكس صحيح. الآن، حان الوقت كي نقلد البلدان الأوربية الراقية التي تحترم السينما مثل فرنسا والسويد والنرويج، ونشيد المركبات السينمائية الصغرى التي لا تتعدى دور العرض بها ستة وتبلغ الطاقة الاستيعابية لكل قاعة حوالي 200 كرسي، حيث تتعدد بها الاختيارات والأذواق والأجناس السينمائية. أنا لا أقصد بهذه المركبات السينمائية "البوبكورن" أو "الهامبورغر"، إنما أنا أقصد الوسيلة التي نجعل بها المتفرج يخرج من قاعة ويدخل إلى قاعة أخرى، أن يشاهد فيلما تلو فيلم. ولكن نجاح هذه الأمنية رهين بأن يكون لأرباب هذه القاعات ثقافة سينمائية وولع بالأفلام ورغبة دفينة في الاستثمار في هذا المجال الفني. من خلال فيلم "كازانيغرا" يلاحظ أن نورالدين الخماري يحاول تصفية حسابه مع مدينة الدارالبيضاء.. ما مدى صحة هذه الملاحظة؟ لا أصفي حساباتي مع الدارالبيضاء..فأنا واحد من سكان هذه المدينة وقاطن بها.. إذا شاهدت فيلم "كازانيغرا" يمكنك أن تلاحظ كيف صورت عمارات الدارالبيضاء وطرقها وأزقتها ونوعية الموسيقى التصويرة الموظفة في الفيلم. أنا عاشق لهذه المدينة ولكن يمكن أن أكون أصفي حسابي مع مجتمعي، أو أن أضع المغربي يواجه نفسه أمام المرآة لرؤية عيوبه.. وهذا جزء من صميم عملي، فليس دوري أن أبرز الأشياء الاصطناعية والسطحية.. أنا لست أهلا لأقدم في أفلامي الدروس والنصائح للمغاربة.. المغاربة لا يحتاجون منا الدروس والمواعظ بقدر ما ينبغي أن نجعلهم في مواجهة مع مرايا عيوبهم. أنا لست رسولا ولا سياسيا بل أنا فنان أضع أصبعي على مواضع الجرح. أجل، أصفي حساباتي مع المغاربة أما المدينة فلا... حان الوقت كي يتخلص المواطن المغربي من وصاية الدولة أو أي شكل آخر من أشكال الوصاية التي قد يكون الأب طرفا فيها أو الأم أو الأخ أو الأخت أو الزوجة أو الابنة.. كفى، ينبغي أن أكون مسؤولا عن نفسي، وأحدد دوري داخل المجتمع.. "كازانيغرا" بالنسبة لي قصيدة حب في مدينة الدار البيضاء. هذا الفيلم صورته بدون أي مركب نقص، ولم يكن يهمني مطلقا ترويجه في مصر أو فرنسا، بل فضلت أن يكون النقاش حول الفيلم في وطني. فليس لدي أي مشكل مع بلدي أو ذاتي، إنما اكتشفت أنني أعيش وسط مدينة رائعة لا أحترمها وأنا الذي حولتها إلى "كازانيغرا" أو "الدار الكحلة". فيلمك الجديد "الزيرو" هل سيكون امتدادا ل"كازانيغرا"؟ إذا شاهدت أفلامي النرويجية السابقة، ستلاحظ ميلي إلى المواضيع ذات الأبعاد الإنسانية، لكنني أسلط الضوء خصوصا على الجوانب المعتمة، وهذا ما يفسر جنوحي نحو "السينما السوداء". الكثير من الناس عابوا علي هذه النظرة المتشائمة إلى الأشياء، النرويجيون أنفسهم اتهموني بأنني قاس تجاه المجتمع النرويجي.. هذا ليس صحيحا، فليس ذنبي أن معظم مواضيعي وجودية.. وإذا طرحت علي السؤال عن سبب هذه الرؤية الفلسفية، سأحيلك إلى شخصيات أغلب أعمالي السينمائية، حتى شخصيات المسلسل البوليسي "القضية"، فهي شخصيات تفترسها الوحدة والعزلة.. شخصيات "كازانيغرا" أو فيلم "نظرة" هي أيضا شخصيات انطوائية. فيلمي المقبل "الزيرو" لن يكون بمعزل عن هذه الرؤية، فأنا كنت متيما دائما بالشخصيات "المهمشة" ومجتمع "الهامش".. "المهمش" لا يعني الفقير بالضرورة، فالبرجوازي قد يكون مهمشا داخل طبقته الاجتماعية. والنتيجة هي أن هذه الشخصيات المهمشة والمتطرفة التي تعيش فراغا قاتلا تحاول أن تدافع عن وجودها وتلفت إليها النظر. ما بين فيلمك الأول "نظرة" وفيلمك الثاني "كازانيغرا" مسافة زمنية طويلة نسبيا. فما هو تحليلك لهذا الفارق الزمني؟ سؤالك مهم، كل تلك السنوات كان فكري مشغولا بمجموعة من الأشياء.. كنت مترددا أولا بين الاستقرار في المغرب أو النرويج. كنت منشغلا بكتابة عدة مشاريع سيناريوهات نرويجية ومغربية ومن ضمنها سيناريو فيلم "كازانيغرا". خصصت وقتا طويلا لإنجاز سلسلة "القضية" التي كانت موردا لعيشي. خلال تلك الفترة أيضا مررت بمشاكل شخصية عصيبة، بالإضافة إلى أن فيلم "كازانيغرا" نفسه كان يحتاج إلى مصادر تمويل تطلبت كل هذا الانتظار. الآن فتحت أمامي أبواب أخرى ستدفعني إلى الاشتغال على فيلمي الجديد قريبا. وأود أن أشير إلى ملاحظة مهمة، وهي أن الفسحة الزمنية الفاصلة بين "نظرة" و"كازانيغرا"، أي ثلاث سنوات (من 2005 إلى 2008)، كانت فسحة ضرورية اغتنمتها للتأمل والإجابة عن مجموعة من الأسئلة التي تخص أعمالي السابقة. إحدى شخصيات الحلقة الأولى من سلسلة "القضية"، والذي كان دائم الشجار مع نفسه، يعكس جزءا من شخصيتي. فيلم "نظرة" لم أكن راضيا عنه تمام الرضا ولم أخرجه بطريقة أفضل كما كنت أحلم.. فأنا شديد الغيرة على أفلامي و"نظرة" كان سيكون فيلما ناجحا أكثر من نجاح "كازانيغرا" لو صورته بالطريقة التي كنت أتخيلها. الآن طويت صفحة "كازانيغرا" وكل تفكيري منصب على فيلم "الزيرو"، وأنتظر في النهاية حكم الجمهور. فيلم "كازانيغرا" لقي احتفاء واعترافا خارج المغرب أكثر من داخله. لماذا واجه كل هذا البرود في نظرك؟ ببساطة، لأن الفيلم صور بطريقة عالمية.. فالكثير يجد ذاته في الفيلم بغض النظر عن جنسيته المغربية. وأعطيك مثالا، الفيلم الآن يعرض بالنرويج، وقد شاهده حوالي 32 ألف مشاهد خلال أسبوع، وهذا ما أثار استغراب الصحافة النرويجية.. بماذا تفسر ذلك؟ باختصار لأنني صورت الدارالبيضاء مثلما أصور أوسلو أو نيويورك، أي بطريقة عالمية وبجدية، والجمهور يحس بهذه الجدية. وأظن أن هذا هو الاتجاه الذي ينبغي أن تنحاز إليه السينما المغربية. ينبغي أن نتخلص من طابع "المحلية"، نصنع إكسسوارات محلية بأنفسنا ولكننا نصورها بمعايير عالمية حتى يمكن تصدير أفلامنا، فهي خير سفير للتعريف بتطور المغرب، حينئذ سنكون قد ساهمنا بأنفسنا في إنتاج صور عن التقدم في المغرب لا أن ننتظر من العالم أن ينتج هذه الصور عن بلدنا. إذا لم يهاجر الخماري إلى النرويج التي كانت محطة مهمة في تكوينك ، فهل كنت تتوقع أنك الآن هو مخرج "نظرة" و"القضية" و"كازينيغرا"؟ لا.. ربما كنت في آسفي معلما أو موظفا في المكتب الشريف للفوسفاط أو "المرسى"... ألتقي اليوم بأصدقاء الدراسة في أسفي وأعرف مصيرهم.. أنا فضلت حياة الكفاح والمحن، قدمت مجموعة من التضحيات حتى أصل إلى هذه المرتبة الاجتماعية. لو بقيت في أسفي لا أعتقد أن أحقق ما حققته اليوم، ليس لأن المغرب بلد تجهض فيه أحلامك، ولكن ميدان الإخراج السينمائي الذي اخترت أن أواصل فيه مسيرتي كان يحتكره في السابق وليس الآن الأغنياء وكبار العائلات المغربية.. إذا لم أختر الهجرة إلى النرويج لكنت اليوم مجرد عامل بسيط في السينما. وما يحز في نفسي هو وجود العديد من أمثال نورالدين الخماري في المغرب، إذا لم يهاجروا إلى الخارج، ويتعذبوا، فلن ينجحوا في حياتهم. لذلك إذا لم أمنح الفرصة الآن في أفلامي لعمر لطفي أو لأنس الباز أو نفيسة بنشهيدة، فلأني أعلم أن لا أحد سيمنحهم هذه الفرصة.. الكثير يسألني عن سر اعتمادي على وجوه جديدة في أعمالي السينمائية والتلفزيونية، هذا هو السر وسأفصح عنه لأول مرة. هل سنكتشف في فيلمك المقبل "الزيرو" عمر لطفي وأنس الباز آخرين أم ستحتفظ بنفس الممثلين كما يفعل مجموعة من المخرجين؟ لا أعرف بكل صراحة، لكن ما أنا متأكد منه هو احتفاظي بالممثل إدريس الروخ والممثلة راوية، فهذان الممثلان أتفاءل بهما وأقدر موهبتهما. إدريس الروخ لأني اشتغلت معه طويلا، بالإضافة إلى أنه ممثل رائع. وراوية لأنها ممثلة مقتدرة.. الممثل عمر لطفي ممكن أن أستعين به ولم لا أنس الباز... لم أحسم في الاختيار بعد. ما أود قوله هو أنه في أفلامي لابد أن أقدم وجوها جديدة إلى السينما