كان مُثيرا حقا، للإنتباه والريبة، أن تصدر أغلب صُحُف يوم الجمعة الماضي (باستثناء الجريدة الأولى و أخبار اليوم) غُفلا من الخبر الذي اندلع في الوسط الإعلامي والسياسي، مساء يوم الأربعاء السابق، وتناقله المُهتمون فماً لأذن، وعبر مُنتديات النقاش في الأنترنيت، ونعني به خبر الحجز على مقر مجلة "لوجورنال" وإيقاف صدورها، بقرار سياسي مُغلف بمبرر قضائي. إقبار تجربة "الصمت" عن فضيحة أُخرى في التضييق على حرية التعبير، كان أكثر من مُعبر، سيما أن إحدى اليوميات، التي "اكتشفت" فوائد الإرتباط بدائرة النفوذ المُحدثة، كانت قد عمدت في الآونة الأخيرة، إلى نشر أخبار "مسنودة" على نحو مُغرض، مشفوعة بتعليقات كيدية، عما أسمته بالمتاعب المالية للشركة المُصدرة لمجلة "لوجورنال"، ولم يكن مُفاجئا أن تنشر نفس اليومية، خبرا عن الحجز المالي على حسابات "لوجورنال إيبدومادير" مشفوعا بنفس اللغة الكيدية، في نفس اليوم الذي انتقل فيه أعوان قضائيون، لتنفيذ قرار توقيف المجلة المذكورة. فما هو السر يا تُرى، وراء "التزمير" (من المزمار) ب "مساوىء" لوجورنال، قبل منعها، والصمت عن خبر جريمة اغتيال منبر صحافي؟ الجواب نجده في مسلسل متاعب مديدة، للمجلة الممنوعة، عبر أزيد من عشر سنوات، حيث لم يتسن "إقبار" هذه التجربة الصحفية الرائدة في مغرب الراهن، بالرغم من كل المُحاولات التي بدلها، بشكل حثيث، ومحموم، المُتنفذون الجدد، في أعلى مُستويات القرار بالبلاد، أي القصر. عبَّر الحسن الثاني في أواخر أيام حياته، لأحد المُقربين منه، عن إعجابه بتجربة "لوجورنال إيبدومادير"، حيث قال له ما معناه: "هذا هو نوع الصحافة الذي أوده أن يكون في مغرب اليوم".. وحسب مصادر من داخل تجربة "لوجورنال" فإن الحسن الثاني عرض يوما، دعما ماليا كبيرا على مسؤولي "لوجورنال" يتضمن شراء مطبعة خاصة بها، بعدما كشف عن تذمره من مسألة "هجرة" طباعة المجلة، إلى فرنسا، بل وتفوه - أي الحسن الثاني – بكلام تنقيص في حق أصحاب المطابع المحليين، لرفضهم طباعة "لوجورنال"، غير أن مسؤولي المجلة، رفضوا عرض الحسن الثاني "السخي" الذي تكفل بنقله إليهم وزير الدولة في الداخلية السابق إدريس البصري. علل مسؤولو المجلة رفضهم العرض الملكي، برغبتهم في الإحتفاظ بمسافة استقلالية ملموسة، عن دوائر السلطة في البلاد، وهو ما كان يعني أن الخط التحريري ل "لوجورنال" كان طوقا أحمر لا يُمكن القفز عليه. غير أن ذلك لم يُفسد للود قضية، كما يُقال، بين مسؤولي المجلة ومُحيطين بمربع القرار في القصر، سيما مع المُدير السابق لديوان ولي عهد آنذاك (محمد السادس حاليا) ونعني به فؤاد علي الهمة، وزميله على مقاعد الدرس بالمعهد الملكي "حسن أوريد"، وهو الوُد الذي وصل إلى حد "تنسيق" تم بين فؤاد علي الهمة ومسؤولي "لوجورنال" في عملية وساطة بين القصر، وإدارة جريدة "لومند" عقب اندلاع قضية طريد القصر هشام منداري، أواخر سني حياة الحسن الثاني، كما أن الناطق باسم القصر الأول والأخير في البلاط الملكي، حسن أوريد، كان يكتب على صفحات مجلة "لوجورنال" و رديفتها بالعربية "الصحيفة" بانتظام، لمدة لا يُستهان بها. وقبل هذا وذاك فإن أحد أقرب الأثرياء إلى القصر وهو حسن المنصوري، كان هو المُساهم الأساسي في شركة "ميديا تروست" التي أصدرت "لوجورنال" أول مرة.. غير أنه عندما تباينت السبل، ثم افترقت بالطرفين، تم قطع حبل الود ذاك، حيث التزم علي الهمة "مُعسكره" وطوى أوريد أقلامه، وانسحب مُزود القصر بالأثاث حسن المنصوري، من مالية "ميديا تروست" ليتحول "وُد" الأمس القريب، آنذاك، إلى عداوة "صامتة" ثم صاخبة، كيف ذلك؟ كانت أعداد المجلة، التي بدأت في بحر سنة 1997 ذات طابع ينحو إلى عالم المال والأعمال والإقتصاد، بشكل متخصص، قد تحولت إلى "النبش" أكثر فأكثر في ملفات سياسية، سيما المُرتبط منها بالقصر ومُحيطه، وِفق زاوية مُعالجة دقيقة وجريئة، فكانت أغلفة غير مسبوقة في تاريخ الصحافة المغربية، مثل ذاك الذي تضمن حوارا مع فاطمة أوفقير، زوجة الجنرال أحمد أوفقير المغضوب على ذكراه، وحوار ضمن عدد آخر مع رئيس جبهة "البوليساريو" محمد عبد العزيز المراكشي، وهو العدد الذي مُنع، وغيرها. غلاف الأغلفة في تلك الآونة، ونُشر في دجنبر من سنة 2000 تمثل في نشر ملف عن حدث الانقلاب العسكري الثاني، ضد الحسن الثاني (16 غشت سنة 1972) الذي تضمن حينها رسالة الفقيه البصري/القنبلة، التي أفادت تورطا ضمنيا، لحزبيين مثل عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي، وآخرين في الانقلاب الذي دبره الجنرال أوفقير والكولونيلين أمقران وكَويرة، فكانت تلك هي القاصمة بالنسبة لدائرة القرار الضيقة في القصر، حيث تقرر حينها، منع "لوجورنال" غير أن وزير أول آنذاك عبد الرحمان اليوسفي، منح تغطية لقضية المنع، حسب إفادة القيادي الإتحادي عبد الهادي خيرات في الحوار الذي أجرته معه الجريدة الأولى، قبل بضعة أشهر، وتم في نفس الخضم، منع جريدتين هما "الصحيفة" و و"دومان" لتبدأ أولى فصول متاعب الصحافة المُستقلة مع ما يُسمى بالعهد الجديد. لقد اتضح ما كان بديهيا، وتمثل في أن مُمارسة حقيقية لمهنة الصحافة، لا يُمكنها أبدا أن تكون في ظل "حرص" على الإرضاء، وهو ما يشرحه ببلاغة المثل الفرنسي القائل: "لا يُمكنك أن تعمل وتُرضي في نفس الوقت".. غير أن الشرط، كان هو توفر إرادة صلبة لدى القائمين على إدارة "لوجورنال" سيما مُديرها السابق أبو بكر الجامعي، في جعل هذا المنبر الجاد، مُستقلا ومِهنيا إلى أبعد حد مُمكن، في مغرب العُشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، وبطبيعة الحال، لم يكن ذلك ليتسنى دون ثمن، ولكل شيء قَيِّم في الحياة ثمنه الباهظ، وعلى قدر العزم تأتي العزائم، كما يُقال. الإصطدام الحتمي عاشت "لوجورنال" إذن تجربتها الأكثر حِدة، عقب الضجة السياسية والإعلامية، التي واكبت حدث المنع في دجنبر سنة 2000، ولم يكن من المُستساغ في نواة دائرة القرار بالبلاد، أن تمضي تجربة جديدة ورائدة وجريئة مِهنيا، في درب "سالك" وهي الرغبة التي صَدَّقَ عليها قرار المنع النهائي لمجلة "لوجورنال" لتولد بعد صراع حاد مع السلطة، باسم جديد هو لوجورنال إيبدومادير".. احتفظت إدارة هيئة تحرير المجلة، بنفس الخط التحريري، في أجواء مشدودة، شهدت ضيقا احتد أكثر فأكثر مع موجة الصحافة المُستقلة بالمغرب، من أهم علاماته أن الكاتب الخاص للملك ومُسير ثروته "محمد منير الماجيدي" نهى زبناء "لوجورنال" من المستشهرين، عن التعامل مع المجلة المغضوب عليها، وشمل هذا الإحتداد، بعد ذلك، باقي مكونات الصحافة المستقلة، حيث كان هناك منع نهائي لصحيفتي "دومان" و "دومان ماغازين" والحكم بحبس مُدريرهما "علي لمرابط" لنشره كاريكاتيرا اعتُبر ماسا بالإحترام الواجب للملك، واعتقال عدد من الصحافيين الآخرين، منهم مصطفى العلوي (مُدير جريدة الأسبوع) ومصطفى قشنني (مُدير جريدة الحياة الشرقية الجهوية) ومحمد الهرد، وغيرهم، في ملفات مُرتبطة بزوبعة الإرهاب عقب تفجيرات البيضاء (16 ماي 2003) حيث إن تدابير التشدد في التعاطي السياسي (تمرير قانون الإرهاب) والأمني (اعتقالات بالجملة ومُمارسات تعذيب وحشية) والقضائي (صدور أحكام قاسية في حق المُتهمين) لم تترك مهنة المتاعب على هامش ما يحدث، وبالتالي تم وضع هذه الأخيرة في مرمى هدف المُتنفذين الجُدد حول مُربع قرار السلطة، وكانت مجلة "لوجورنال" في قلب الزوبعة، حيث توالت عليها المُتابعات القضائية، والمُضايقات الأمنية والمالية، كما حدث مثلا في قضية الدعوى التي رفعها عليها وزير الخارجية والتعاون السابق "محمد بنعيسى" الذي أصر على استخلاص كامل المبلغ المحكوم به على إدارة المجلة (أزيد من 70 مليون سنتيم) في قضية منزل سفير المغرب بواشنطن. ومُطاردة بوليسية للمُدير العام السابق ل "لوجورنال" علي عمار والصحافي معاد غاندي، عقب نشر المجلة حوارا مشهودا مع الرئيس المُدير العام السابق للقرض العقاري والسياحي "زين الدين الزاهيدي" كشف فيه النقاب عن أسرار خطيرة، حول قصة إفلاس مؤسسة مالية يُفترض أنها عمومية. بالمُختصر المُفيد، فإن التجربة المهنية والرائدة لمجلة "لوجورنال" كانت غير مسبوقة في تاريخ الصحافة ببلاد الأيالة الشريفة، لدرجة أن أحد قُدامى المهنة وصفها – أي تجربة لوجورنال – بالقول: "لقد حققت مكاسب للمهنة، في ظرف بضع سنوات تُعد على رأس أصابع اليدين، ما لم تُحققه صحافة الدولة والأحزاب في أزيد من خمسين سنة". ليس في الأمر مُبالغة إذا ما دقَّق المرء النظر في تضاريس التجربة، سيما إذا وضعها في سياقها العام، حيث يستحيل فصلها عن الظرفية السياسية بالبلاد، والتي اتسمت بظروف التحول الصعبة، بل والمُضطربة. مُدير المجلة السابق "أبو بكر الجامعي" سبق أن قال في حوار له مع أسبوعية "الحياة" عقب عودته من منفاه "الإختياري" الذي دام أزيد من سنة ونصف، أنه يعتبر نفسه من أبناء تجربة التناوب التي قادها عبد الرحمان اليوسفي، وبما أن التجربة إياها آلت إلى فشل ذريع، فإن الأرضية السياسية لم تكن لتستوعب تجربة صحافة مُستقلة حقيقية، وهو ما يفسر أشكال التضييق التي مورست على منابر امتطت أجمل ما لم تُؤسس له تعاقُدا، تجربة التناوب، أي وضع قطار البلد على سكة التغيير الحقيقية. وفي الوقت الذي استنفدت فيه تجربة التناوب آخر أغراضها الظرفية، استمر أفضل أبنائها غير المُنتسبين عُضويا، في الصدح بحلم التغيير، وبذلك كان الإصطدام حتميا. توالت متاعب "لوجورنال" في شكل تضييق مالي هذه المرة، حيث اضمحلت مداخيلها المالية، طرديا، لتصل إلى نسبة تُقارب الثمانين بالمائة مما كانت عليه، وتراكمت الديون على شركة "ميديا تروست" فكان لا بد من حلها، لإيجاد مخرج ممكن، غير أن "الفتوى" هذه المرة جاءت من خلال "موجة" الذعائر المُبالغ فيها، وسيشهد تاريخ المهنة في هذا البلد أن أول مبلغ ضخم حُكِمَ به على منبر صحافي مغربي، كان هو ذاك الذي قضت فيه المحكمة بتغريم مجلة "لوجورنال" بما قدره ثلاثمائة ملايين سنتيم، لفائدة معهد دراسة أجنبي مغمور، لصاحبه الغامض "كلود مونيكي" سنة 2006، وقد ظل مُحامي الطرف المُدعي "محمد زيان" يصرخ في قاعة المحكمة، في جلسة الإستئناف المُخصصة للقضية: "هل رأيتم افتاتحية تُساوي ثلاث مائة ملايين سنتيم؟" وذلك بعدما رفض مُدير "لوجورنال" أبو بكر الجامعي، كتابة افتتاحية يُضمنها اعتذاره للطرف المُدعي، فتم تنفيذ الحكم ضد إدارة المجلة، وبما أن هذه الأخيرة لم تكن تملك المبلغ المحكوم به، فقد كان مُحتما على مُديرها مُغادرة مهامه، وفك كل ارتباط مع "لوجونال" حتى يضمن عدم وأدها بقرار قضائي. "اللعنة المخزنية" سارت الأمور بعد ذلك في المجلة سيرها العادي، بل وتم التغاضي عن كل "المؤاخذات" القضائية والمالية ضدها، في وضع عَبَّرَ عنه أحد المُقربين من القصر، من المُتنفذين الجُدد، حين أسر لأحد اصدقائه: "لن نقتل لوجورنال بل سنترك رأسها خارجا بالكاد من سطح الماء".. وحينما تساءل البعض، عن "السر" وراء هذه الهُدنة، تلقى أحدهم هذا الجواب: "كان المطلب الوحيد المُلح، هو رحيل أبو بكر الجامعي والباقي لا يهم". وبالفعل لم تشهد المجلة متاعب تُذكر، طيلة الفترة (نحو سنة ونصف) التي قضاها مُديرها السابق في الخارج، بل وعرفت مداخيلها من منبع الإشهار، تحسنا ملحوظا، غير أن قرار أبو بكر الجامعي بالعودة، إلى بلاده ومهنته، في شهر شتنبر من السنة الماضية (أي منذ نحو خمسة أشهر) بوضع جديد هو كاتب افتتاحيات "لوجورنال" أعاد "همهمة" الأبهاء في أعلى مُستويات القرار بالبلاد، وعمد الكاتب الخاص للملك مرة أخرى إلى "نهي" المستشهرين عن التعامل مع "لوجورنال" ثم صدور قرار قضائي بالحجز على الحسابات البنكية لشركة "ميتري ميديا" المُصدرة، منذ نحو شهرين، وذهب الأمر إلى حد سريان شائعة مفادها احتمال اعتقال أبو بكر الجامعي، الأمر الذي لم يتم، غير أن الترقب كان مُلحا في ماهية مآل المعركة الصامتة/ الصاخبة، خُلوصا إلى قرار اغتيال المجلة بشكل نهائي، مُغلفا بقرار قضائي، وهذه المرة تمثل "حصان طروادة" الجديد، في دُيون مُتراكمة لفائدة صندوق الضمان الإجتماعي، وهي "فتوى" جديدة خلطت جريرة مديونية تُعتبر "عادية" في المغرب، بجريمة قتل منبر صحافي مستقل، تشبث أصحابه بمطلب الإستقلالية، عن أخطبوط المصالح السياسية والإقتصادية المُتشابكة، في بلد يفعل فيه المخزن السياسي/الإقتصادي، ما يحلو له دون حسيب أو رقيب. إنها إذن توليفة، تركيبية/تحليلية لقصة "اللعنة المخزنية" على تجربة "لوجورنال" الرائدة، ولن يكون مُبالغا، التأكيد على ما ذهب إليه مُدير مجلة فرانكفونية مغربية، "مُعزيا" أحد كُتَّاب الأعمدة ب "لوجورنال": "إنه يوم أسود في تاريخ الصحافة المغربية". ولو شاء القائل الدقة، لوجد أن اليوم الأسود الحالك، الذي خيم بعد اغتيال "لوجورنال" طال ضربا نادرا، نُدرة الشعاع الضئيل في الليل البهيم، من الصحافة المِهنية المُستقلة معنى، لا ادعاء. وهو ما يُفسر "تمرير" جريمة اغتيال "لوجورنال" في صمت/صاخب، من طرف نوع آخر من الصحافة يُشهر مزاميره وطبوله، للنافذين، وسكاكينه لأهل نفس المهنة، وبالتحديد لجانبها الأكثر إشراقا في هذا البلد.
* نُشِر نص هذا المقال في "الجريدة الأولى" عدد يوم الإثنين 1 فبراير الجاري، تحت عنوان: "لوجورنال: قصة اغتيال منبر صحافي مُستقل".