يتميّز حزب الاستقلال عن غيره من الأحزاب المغربية بقوة تماسكه التنظيمي وبتحكم قيادته في القواعد والفروع بفضل جهاز المفتشين الذين يلعبون دورا محوريا في تحقيق ذلك بشكل سلس لا يخلو من ألاعيب ودسائس. إنه الحزب الأكثر نشاطا على مستوى تجديد الفروع المحلية وعقد المؤتمرات الإقليمية والجهوية وكذلك المؤتمرات الوطنية التي بلغت خمسة عشر مؤتمرا لحد الآن. زد على هذا أنه من أكثر الأحزاب المغربية إن لم نقل أكثرهم تنوّعا من حيث المنظمات الموازية من قبيل منظمات الشبيبة والمرأة والكشاف المغربي والعديد من الجمعيات بالإضافة إلى نقابة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب الموالية له. كل هاته صفات تجعل حزب الاستقلال يتوفر على قاعدة شعبية كبيرة لا يستهان بها في الاستحقاقات الانتخابية الشيء الذي كان دائما يساهم في تبوّئه المراتب الأولى إلا إذا تمت مواجهته بالتزوير كما كان يقع في أزمنة ماضية. وقد استفاد حزب الميزان من قوته التنظيمية ومن تعاطف شرائح واسعة من المجتمع الحضري والقروي معه خاصة أولئك الذين عاصروا جيل الاستقلال وتربّوا على مبادئ الحركة الوطنية كما التحق به جيل آخر من الشباب على أمل النضال من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية اللتان كان دائما يدعو إليهما في نشأته وفي مسيرته. إلا أن الانتماء إلى حزب سياسي لا يمكن أن يكون صحّيا سواء بالنسبة للمتحزب أو للحزب نفسه إلا إذا كان مشروطا بنقطتين أساسيتين: أولا يجب على الحزب الذي يطمح المواطن إلى الانتماء إليه وممارسة السياسة من داخله أن يتّصف بالمصداقية والجرأة في سياسته إن كان داخل الحكومة أو خارجها حتى يعطي لمناضليه هامشا ومتنفسا للدفاع عن مبادئه وتوجهاته أمام الناس. فهم الناخبون وهم المحاسبون. ومن مسؤولية القيادة الحزبية التواصل مع قواعدها والنظر في انشغالاتهم التي تعبر عن انشغالات جزء من المجتمع وآرائه. ثانيا، من واجب الحزب كذلك المحافظة على الديمقراطية الداخلية والتوجه نحو ترسيخها بما يسمح لذوي الطاقات والمؤهلات بالبروز وتحمّل المسؤوليات داخل تنظيماته المختلفة بشكل ديمقراطي لا تدخل فيه أية اعتبارات فئوية أو جغرافية أو ما شابه ذلك. بمعنى أن شروط التعاقد بين الحزب والمتحزب يجب أن تكون مبنية على مشروعية الإشعاع السياسي للحزب وعلى سلامة التنظيم بداخله. للأسف، وأقولها بحسرة، لقد فشل حزب الاستقلال في مرحلته الأخيرة في تحقيق هذين الشرطين ممّا انعكس على مردوده الإشعاعي وأدى إلى فقدان موقعه في الساحة السياسية الذي كان يرتكز على المزج بين ارتباطه بهوية المغرب العربية الإسلامية وبين العمل على الرقي بالمجتمع نحو الحداثة والديمقراطية. كما أخفق الحزب في تحصين بيته الداخلي ليتم اختراقه من طرف مجموعة من مصاصي دماء الشعب المختصون في الترحال السياسي بين الأحزاب لحماية مصالحهم الفردية ليتبعهم في ذلك الانتهازيون والمتملقون من داخل الحزب وخارجه. وقد ساهمت في الوصول إلى هذا الوضع المتردّي عوامل عدة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: 1-غياب المثقفين وتغييبهم عن الشأن الحزبي ليتم تعويضهم بالفقاعات الحزبية وذوي النزعات الشعبوية حتى صاروا يتكلمون باسمه ويستحوذون على خطابه من دون حق، وأستحضر هنا إحدى حكم الإمام الغزالي رحمه الله الذي قال: # يجب لجم العوام عن علم الكلام#. وهي ظاهرة يمكن تعميمها على كل الأحزاب المغربية وإن كانت نسبية. 2-استحواذ فئة معيّنة على المناصب الوزارية والمؤسسات العمومية والأجهزة الحزبية بشكل فاضح يتداخل فيه عامل القرابة العائلية وارتباط أبناء هذه الفئة بنخبة أنجزت دراستها في الخارج وفي فرنسا تحديدا. هذا المعطى يصيب أبناء الشعب وقواعد الحزب بالإحباط وفقدان الأمل فيما يمكن أن يقدمه لهم هذا الأخير على المستوى الشخصي والجماعي. 3-تقاعس الحزب في العشرية الأخيرة عن سعيه وراء الإصلاحات السياسية العامة وعن أخذ زمام المبادرة فيما يتعلق بتفاوضه مع جلالة الملك من أجل تطوير أدوار المؤسسات التشريعية والتنفيذية بما يتناسب مع التوجه الجديد للسلطة. وأشير هنا إلى أن الإصلاح الدستوري المتوخى الوصول إليه ليس هدفا في حد ذاتها مثلما يتخذه البعض عنوانا للضغط على أصحاب القرار، وإنما هو وسيلة لتنمية المجال السياسي في العمق وهي تبتغي النظر في تفاصيله ومناقشتها كل على حدة. 4-فقدان ثقة المواطن في الأحزاب السياسية نتيجة ممارسات خاطئة أو قاصرة قام بها جل من تحمّل المسؤوليات باسمها فأسفر ذلك عن ظهور نخبة جديدة من المتنورين الذين يعبّرون عن آرائهم في مختلف وسائل الإعلام فيلقون بأسواطهم على الأحزاب حاكمين عليهم بالإعدام.؟ لكنني أسألهم: بالله عليكم أين هو البديل في نظركم؟ كيف يمكن لنا أن نتقدم في بناء دولة حديثة مبنية على مؤسسات حقيقية بدون أحزاب سياسية؟ هل الإصلاح الفوقي كاف للرقي بهذا المجتمع أم أن انخراطنا في الإصلاح ضروري ومؤكد؟ أعتقد أن المطلوب من النخبة المتنوّرة في هذا البلد التمعّن قبل أخذ الأحكام المسبقة وعدم تحميل الأحزاب السياسية مسؤولية أخطاء الأفراد الذين تعاقبوا على تسييرها. إلا أننا لا يمكن ننفي كذلك الدور الأساسي الذي لعبته الأحزاب السياسية الحقيقية وعلى رأسها حزب الاستقلال وباقي أحزاب الكتلة في النضال من أجل ترسيخ الديمقراطية وبناء دولة المؤسسات. وقد فرضت نضالاتها على السلطة العليا في البلاد الإنصات إلى مطالبها والتفاوض معها من أجل نسج تعاقدات مهمة طبعت تلك المراحل. ونذكر على سبيل المثال ميثاق الكتلة لسنة 1972 بزعامة المرحومين علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد الذين كان يعتبرهما المغفور له المرحوم الحسن الثاني مفتاح الفرج في علاقته مع أحزاب الحركة الوطنية. كما لعب الأخ امحمد بوستة دورا رياديا في هذا المجال قبل أن تبعده الغضبة الملكية عن الساحة السياسية لينتقل الدور الذي كان يلعبه حزب الاستقلال في أوائل التسعينات إلى الاتحاد الاشتراكي، حليفه في الكتلة، الذي كان على أهبة الاستعداد لتحمّل المسؤولية بشروط أقلّ مما كان يطلبه بوستة. كيف يمكن لنا الآن أن ننسى كل تلك المحطات بعد أن عبّر جلالة الملك محمد السادس عن إيمانه بمفهوم جديد للسلطة وعن إرادته القوية لإصلاح المجالات العمومية؟ أم أن الرهان الديمقراطي لم يعد يحتلّ مكانته في ذهن القيادات الجديدة أو أن الوقت لم يعد وقت زعامات وإنما هو زمن المؤسسات المبنية على أسس متينة. إن طموحنا يرمي إلى خلق مناخ سياسي في المستوى المطلوب لتخليق الحياة العامة وتنقية المشهد الحزبي من البلقة والفوضى السياسية حتى تتمكن الأحزاب من أخذ مكانتها الطبيعية ومن الوصول إلى مستوى معقول من النضج والوعي باعتبارها شريكا لا محيد عنه في مسلسل الإصلاحات بعيدا عن منطق المواجهة والصراع الذي لا يفضي إلى أية نتيجة. وإلا فإذا استمرّ اللبس وفي ظل غياب ميثاق جماعي بين الحاكم والمحكوم وفي غياب التواصل بين الإثنين سيستمرّ الفساد بكل أشكاله في الأحزاب وخارجها.