بانتهاء السنة الميلادية الحالية تكون قد مرت تسع سنوات على صدور "مذكرة إلى من يُهمه الأمر"، وهي الرسالة المفتوحة التي بعث بها الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين إلى الملك محمد السادس متضمنة وصفا شاملا لما آلت إليه أوضاع البلاد والعباد، وأسباب ذلك، وكذا خارطة طريق لبعض المداخل الأساسية للإصلاح. وقد كان طبيعيا أن تكون لغتها غير عادية، وأسلوبها غير مألوف بسبب طبيعة كاتبها، والمكتوبة إليه كذلك، وبسبب الموضوع الذي تتطرق إليه؛ فصاحبها هو الأستاذ عبد السلام ياسين مرشد جماعة العدل والإحسان، ورمز العمل الإسلامي في هذا البلد، وهو المشهور بصراحته وصرامته، والمعروف بمواقفه الواضحة من النظام السياسي القائم، والتي توضحها رسالتيه التي سبق أن بعث بهما إلى الملك الراحل الحسن الثاني "الإسلام أو الطوفان" في بداية السبعينات، وقد كلفته سنين من عمره قضاها في المعتقلات ومستشفى المجانين بدون محاكمة، وكذا "رسالة القرن الملكية في ميزان الإسلام" في بداية الثمانينات، ودخل على إثرها، كذلك، إلى السجن ليقضي فيه سنتين. أما المكتوبة إليه فهو ملك البلاد، وهو آنذاك حديث عهد بالملك، ووارث تركة ثقيلة أبدى منذ توليه إرادة في التخلص منها وتجسد ذلك في مجموعة من مبادراته وخطاباته وإشاراته، وقد كان هذا النوع من الرسائل، على مر التاريخ، يكتسي أهمية لأنه موجه إلى ولي الأمر الذي بصلاحه تصلح الرعية وبفساده تفسد. أما موضوعها فيرتبط بأوضاع المغرب حيث تضمنت تشخيصا للداء ووصفا للدواء، وهي بذلك تندرج ضمن الاجتهادات الأخرى التي تقترح مخرجا من "السكتة القلبية" التي تعيشها البلاد، ومحاولة لإغناء النقاش العمومي حول هذا الموضوع. فكيف تم، إذن، التعامل معها؟ وكيف كان التجاوب مع اقتراحاتها؟. لقد انطلق صاحب المذكرة من مسلمة تعارفت عليها عقول البشر وهي أن "قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب"، ولذلك لم يشر إطلاقا إلى أن محاولته هاته خطاب مقدس أو كتاب منزل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكنها رأي قابل للنقاش، وللرد عليه بحلول واقتراحات أخرى.. ولأنه لم يصدرها إلا لإثراء الحوار بين مختلف الفاعلين حول شأن عام يهم الجميع فإنه لم يبعثها خلسة إلى المكتوبة إليه كما يفعل البعض (نشير هنا إلى الطريقة التي بعثت بها أحزاب الكتلة في بداية التسعينات بمذكرتها التي ضمنتها مقترحاتها بشأن إصلاح الدستور)، ولأنه حريص على الوضوح وتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية ولا يهمه تحقيق منافع شخصية فإنه لم يبعثها مشفوعة بآيات التزلف والمداهنة وفروض الطاعة العمياء التي لا يراد منها إلا نيل الحظوة عند ولي الأمر والاغتناء على ظهر الشعب كما يفعل البعض الآخر، ولكنها عممت على كل من يعنيه أمر البلاد سواء كان حاكما أو سياسيا أو باحثا أو إعلاميا أو مواطنا طالما أن الأمر مرتبط بشأن عام لا تفك طلاسيمه في الكواليس، وإنما يصلح أمره بحوار مجتمعي على مرأى ومسمع من الجميع في جو من الوضوح والحرية والمسؤولية. ولأن الموضوع حساس، والوضع الذي تعيشه البلاد لا يبشر بخير، فقد كان طبيعيا أن يعتري التشخيص والوصف عبارات لا تعجب البعض طالما أن كاتب المذكرة حريص على تحديد المسؤوليات وتسمية المتسببين بأسمائهم، وهذا ما لا يمكن أن تتقبله نفوس ألفت الاغتناء غير المشروع من خيرات البلاد، ولا يمكن أن تستسيغه عقول تعودت على الاستفادة من اقتصاد الريع السائد ونظام الامتيازات الطاغي، ولذلك لم يكن أمام هؤلاء إلا تحوير النقاش ليتركز على بعض الشكليات من قبيل نية صاحب الرسالة وأسلوبها وتوقيتها وخلفياتها عوض الانكباب على تحليل مضامينها ومدارسة أفكارها والاستفادة من بعض مقترحاتها، وهكذا صنفوا بشأن ذلك أدلة كثيرة منها: 1. خروج صاحبها عن الأصول الشرعية والآداب المرعية في مخاطبة ولي الأمر. 2. عدم مراعاة آداب النصيحة. 3. التحريض على كسر بيضة الإسلام والخروج عن الإجماع. 4. التدخل في الشؤون الخاصة للعائلة المالكة بدون وجه حق. 5. رغبة صاحبها في الركوب على الوضع المزري للبلاد للدعوة إلى أفكار هدامة. 6. رغبة صاحبها في المزايدة السياسية على الملك الشاب حديث العهد بالملك. 7. رغبة صاحبها في التشويش على منجزات العهد الجديد. 8. خطاب المذكرة مباشر ومستفز وجارح. وهمش مضمون المذكرة واقتراحاتها، ولم تنل بذلك حظها من المناقشة والحوار، وبقيت وثيقة تاريخية شاهدة على حقيقة المشهد السياسي بالمغرب المطبوع بنقاشات سطحية تتغذى من مواضيع ثانوية لتغطي بها على أصول المشاكل وعمق المعاناة وحقيقة المتسببين فيها. ولكنها وثيقة لم تزدها الأيام والشهور، وحتى السنون، إلا تجدرا، ولم تزدد أفكارها إلا وضوحا، ومقترحاتها إلا صحة ورجحانا. واليوم ونحن في ذكرى صدورها نغتنم الفرصة لنؤكد على بعض هذه الحقائق: -1لقد كان خطاب المذكرة مباشرا وحادا، وصاحبها، أي الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، كان واعيا بذلك، ونبه إليه في بداية المذكرة حين قال: "أنت أيها الشعب الصادق النزيه، أنتم أيها المثقفون الفضلاء الشجعان، يا من تتناغم كلماتكم مع الخطاب المعسول للمداهنين! غضوا الطرف عن وعورة أسلوبي وأصيخوا بأسماعكم وعقولكم لكلماتي المكلومة! لا يمكن أن تعبر الكلمات اللينة عن الذهول الذي يصيب من يتأمل الواقع، ولا أن يعبر الصمت المطبق عن الإحصائيات الكارثية التي تضع المغرب في مؤخرة الركب. لا تستطيع الكلمات اللينة، ولا الجمل المدجنة، ولا التعابير الباردة والأسلوب الذي يسري فيه مخدر الامتثال أن يعكسوا فداحة الوضعية، قد تكون كلماتي حادة، عنيفة أحيانا، مثيرة دون شك في حكم مجمع السادة المفكرين، لكن القضية النبيلة التي يناضل في سبيلها كل مواطن حر يسكنه هدف سام تتطلب منا جميعا حدا أدنى من الصراحة والنزاهة الفكرية حتى نكشف عن الحقائق المنكرة ونوقظ العقول الغافية" (ص 7_8) ولكنه يبغي من ورائه الصراحة "لنكن صرحاء ! لنتكلم بلغة الأرقام الواضحة والمعطيات الواقعية المُحسّة!" (ص 9). -2ثمنت المذكرة بعض مبادرات الملك آنذاك "للملك الشاب محمد السادس رصيد من المودة تكنها له شبيبة مغربية اكتشفت فيه صاحبا لها، رمزا لتحررها، بشرى لها بمستقبل يبش في وجهها بعد عبوس. فخلال الأسابيع الأولى من حكمه، وأينما ساقته حملته التدشينية، كان الملك الشاب على موعد مع الحماس الفتي الجياش" (ص 3) ولكنها أشارت إلى قصورها وعجزها عن حل المشاكل المتفاقمة "لا يمكن للنية الحسنة المتفتحة أن تصمد أمام دهاء الثعالب العجوزة، ولا يمكن استهلال صفحة جديدة وزرع حقل جديد مع جيل هدّه اليأس بالاعتماد على ثقافة العلاقات العامة. لا يمكن أن نمعن في ذر الرماد في عيون العالم والمغرب على شفا جرف هار، كما لا يمكن أن ننسج على منوال العهد البائد بعد أن دقت ساعة الحساب" (ص 4)، وأكدت على ضرورة منظار شمولي لهذا الإصلاح يشمل الميادين كلها "لابد أن يستفرغ الملك وسعه، كامل وسعه، وإلا سيكون من العبث انتظار انبثاق نتائج عميقة من خطوات هامشية وجزئية. لابد من فعل يؤسس، فعل يمنح الشرعية لتسيير جديد للدولة، لمنهج جديد في الحكم، لعدالة أخرى، لتعليم راشد، لعدل اجتماعي يلغي الامتيازات ويقارب ويسدد بين جانبي الهوة السحيقة الفاصلة بين الحفاة العراة والسادة الذين يرفلون في النعيم. لابد من النهوض بالاقتصاد وتشجيع الاستثمار المنتج الموفر للشغل.." (ص 10_11) وأكد هذا الأمر حين قال "لا مناص من إعادة النظر في النظام بأكمله. لابد من وضع القطار على سكة جديدة. ولذا لابد من قاطرة قوية ويد حازمة. لابد من مراجعة شاملة" (ص 11)، وأعطى لذلك أمثلة حية مثل حملات التضامن ضد الفقر وأشار إلى أنها لن تنتج إلا ثقافة التسول "وستقوم حملات التضامن والشارات المقدمة بخمسة دراهم بترسيخ دعائم الثقافة الجديدة، "ثقافة التسول (ص 5)، وأكد ذلك حين قال "فدورات اليد المبسوطة للصدقة المنظمة سنويا تمثل تقليدا يتجذر تدريجيا في المفكرة المخزنية عساه يطبِّع علاقاتنا مع التسول" (ص 5). ولعل هذا ما تأكد بعد أكثر من تجربة، ولا ينكر ذلك إلا جاحد أو متكبر لأن عدد الفقراء في تزايد، ومستوى المعيشة في تدني متواصل، والبطالة والأسعار في ارتفاع، وهذا ما جعل الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين يدعو إلى مفهوم جديد للعدالة "بما أن "أب الأمة" الشاب يمسك الآن بمفتاح التغيير الحقيقي، وبما أنه يقترح مفهوما جديدا للسلطة، فلتكن خطواته موافقة لمفهوم جديد للعدالة وللتوزيع العادل، توزيع الخيرات على جميع أفراد الأسرة المغربية" (ص 29). -3مباشرة بعد اعتلاء الملك محمد السادس للعرش سارع باتخاذ مجموعة من المبادرات، وهي التي التقطها العديد من الفاعلين (باحثين، إعلام، أحزاب،...) بسرعة وضخموها وعقدوا عليها الآمال وبنوا عليها سيلا من الأحلام، وقد نبه الأستاذ عبد السلام ياسين إلى محدودية أثر هذه الإشارات، على قوتها وأهميتها، إن لم تصحبها أفعال حقيقية تندرج في سياق إصلاح النظام برمته، والمشهد العام بكليته "لا أحد يجهل من المراقبين للشأن المغربي -إن تحلى بقليل من اليقظة- أن النظام بأكمله في تحلل سريع، ولا يكفي لتطبيب وضعه المعتل إرسال "الإشارات القوية" التي يحاول عبرها القصر أن يبدي حزمه ويشيِّد سلطته برد مظلمة هنا أو إلقاء خطبة مَوْشِيَّةٍ هناك" (ص 6) وأكد على ذلك حين قال "يحتاج "ملك الفقراء" إلى منجزات رجولية تمكنه من الارتقاء إلى مستوى قائد يليق بالآمال العريضة التي بعثها اعتلاؤه العرش في نفوس الشباب المغربي بشهادة الاستقبالات الهائلة المخصصة له" (ص 7) وأكده كذلك حين قال "مستنقعنا المغربي أسِن ماؤه وفاحت رائحة عطنه، فلا نطمع في أن تنجح "إشارات" صغيرة هنا وهناك في تجفيف مائه الراكد وتفريغ وحله العفن" (ص 24). -4نبه الأستاذ عبد السلام ياسين إلى خطورة تعليق آمال كبيرة على مسلسل التوافق الذي بشر به البعض، وتصوره البعض الآخر حلا سحريا ومخرجا من الوضعية المتأزمة التي تكتوي بنارها البلاد، واعتبره خدعة وتغريرا بالشعب "هذا الشعب الأمي الذي طالما خدعه "الإجماع التوافقي" لطبقة من محترفي السياسة ينتظر اليوم أفعالا" (ص 6) وهذا ما أكدته الأيام والشهور حيث يتحدث الكل عن الردة الحقوقية ونهاية مسلسل الانتقال والتراجع السياسي. -5نبه الأستاذ عبد السلام ياسين في أكثر من فقرة إلى خطورة الدور الذي يقوم به بعض المقربين من القصر، مستشارين وخداما، والتأثير الذي يباشرونه على كل القرارات، وخص بالذكر سدنة العهد القديم "لن يستطيع شيئا إذا استسلم لترانيم سدنة العهد القديم، وسلم مقاليد حكمه إلى الحسابات التناوبية لتتكفل "بترشيد" سير الأمور. لكنه سيحقق الكثير إذا تسلح بالجرأة والعزم وأظهر للجميع قولا وفعلا أن الذي يقود القافلة ليس شخصا مائعا، مدجنا، تتلاعب به الأيدي الماكرة المتآمرة في دهاليز القصر المظلمة" (ص 9) ولهذا نجده يطالب بالاجتهاد في تفكيك إمبراطورية الشر هاته (ص 22) وأحيانا يسميهم بالأفاعي الحربائية (ص 28)؛ وهذا ما تأكد مع مرور الأيام حيث طفا على السطح نقاش حول دور الحكومة ودور المستشارين، ومن يحكم المغرب؟ وكيف يحكم؟ وحكومة البلاط، والحكومة الخفية... -6في الصفحة 13 من المذكرة أورد الأستاذ عبد السلام ياسين إحصائيات تنذر بالإفلاس وتطرق فيها إلى وضعية المغرب حسب إحصائيات الأممالمتحدة للدول حسب مؤشر نموها البشري (مشكل التخلف)، وإحصائيات حول الفقر والتفاوت الطبقي وأحياء الصفيح (مشكل السكن) والبطالة، وخاصة بطالة حملة الشواهد (مشكل التعليم)، والأمية، وبذلك يكون قد وضع الأصبع حول أصول المشاكل وهي (التخلف والسكن والبطالة والتعليم)، مع التركيز على أولويات أخرى كضرورة توفر الإرادة العازمة "سيحقق [أي محمد السادس] الكثير إذا تسلح بالجرأة والعزم وأظهر للجميع قولا وفعلا أن الذي يقود القافلة ليس شخصا مائعا، مدجنا، تتلاعب به الأيدي الماكرة المتآمرة في دهاليز القصر المظلمة" (ص 9) وكذا إصلاح النظام السياسي القائم "لا مناص من إعادة النظر في النظام بأكلمه" (ص 11). إن هذه أمور تدفعنا إلى ضرورة إعادة النظر في المقترحات البديلة التي تضمنتها هذه الرسالة / المذكرة قصد مناقشتها، وفتح حوار بشأنها، ويمكن الإشارة في عجالة إلى بعضها: -1حركة التغيير مرتبطة قبل كل شيء بوجود إرادة: "إما أن يتحفز العاهل ويلم أطراف شجاعته ثم ينقض بالعزم الذي يمتاز به الزعماء ليحطم العوائق، أو أنه سيقبع في دهاليز القعود والخنوع. إما أن يتحلى بالحزم والاقتحام، أو تعود رتابة الجهاز المخزني والميل إلى الحلول السريعة السهلة لتخفض من حرارة العمليات التدشينية" (ص 7). -2لا تغيير يرجى بدون إعادة الثقة للشعب: "سيدعم الشعب عملية التطهير وإعادة البناء إذا ما دعي إلى ذلك بعد أن يثق بالداعي. فالطاقات متوفرة، والكفاءات مستعدة، لكن تعبئتها واستثمارها يتطلب الاعتراف بالقصور والاعتذار عن تاريخ المقصرين حتى يتحفز الجيل النظيف ويفتح عينيه على ما حدث وما يحدث" (ص 24). -3لابد من مشروع مجتمعي: "لا أمل لمحمد بن الحسن ولا لمغرب محمد مادام الإثنان يخبطان في ليل الارتجال، ولا مخرج للجهاز المخزني من المتاهة التي يدور فيها مهما بلغت جرأة الملك الشاب، ومهما تعددت إنجازاته المقتحِمة، ومهما عظمت الآمال التي يجسدها في أعين الشعب المعبر عن ارتياحه. فمادام مشروع المجتمع المحدَّد بوضوح، المعَبِّئِ للشعب، كلِّ الشعب، غائبا فلا أمل في الإفلات من طوفان يوشك أن يحل!". هذه محاولة لإعادة مقترحات "مذكرة إلى من يهمه الأمر" للواجهة، وهي مقترحات لم تزدها السنين والوقائع إلا نصاعة وصحة. [email protected] mailto:[email protected]