كان الله في عون مولاي الطيب والنقيب الناصري في مواجهة "أغلظ مسامير الميدة" في الداخلية والعدل ليس من باب الصدفة أن يُعلن، عشية يوم الاثنين (4 يناير 2010) عن تعيين جزئي في الحكومة المغربية، مباشرة بعد خطاب الملك محمد السادس الذي وجهه إلى المغاربة، ليلة الأحد (3 يناير 2010). إن منطق الأشياء يؤكد أن هذا التعديل خاصة في ما يتعلق بوزارتي الداخلية والعدل جاء لينسجم مع مضمون خطاب الملك، والمتعلق بالجهوية الموسعة، أي تمكين الجهات من هامش أوسع في التسيير الذاتي والتخلص من المركزية الضيقة، ما يعني أن المغرب لم يعد في حاجة إلى وزير داخلية تقني وبيروقراطي يشتغل بالتعليمات، ويحبس أنفاس ولاة الجهات وعمال الأقاليم وممثلي السلطة المحلية، وإنما إلى وزير داخلية يستند إلى القانون في قراراته وتعاطيه لشؤون الوزارة التي تتدخل في كل شيء بحكم وصايتها على الكثير من القطاعات في المغرب. يمكن القول، إذن، إن الدولة في المغرب اقتنعت بضرورة إعادة الاعتبار للقانون، ولرجاله، فهؤلاء ظلوا مهملين أمام سيطرة "حزب المهندسين"، فالأحزاب في المغرب لا تتوفر على مستشارين قانونيين بمعنى الكلمة، لأن هذه الفئة مكلفة للبعض ومزعجة للآخرين، بل إن الجميع، مؤسسات في الدولة والأحزاب وفي النقابات، وفي المجتمع المدني، وحتى الأشخاص الذاتيين، يجتهد (أي الجميع) في خرق القانون وعدم تفعيل مقتضياته. وفي المقابل المغرب في حاجة إلى وزير عدل عارف فعلا لعقلية القضاة والمحامين والمفوضين القضائيين، والأعوان القضائيين، وكل الفاعلين في قطاع العدل والقضاء، وزير لا تجتذبه المصالح الحزبية وحسابات الأغلبية، وزير مطلع على ملفات كبرى رائجة وتروج أمام القضاء، وزير قد تكون لديه فكرة عن مكان الخلل في عدم صلاح القضاء في المغرب، بحكم تجربته الميدانية والنظرية، وزير له قنوات مباشرة مع أصحاب القرار والمذكرين دوما بضرورة إصلاح القضاء. ووفق ما سبقت الإشارة إليه، فإن الجديد في التعديل الحكومي الجزئي، ليس إبعاد شكيب بن موسى، لأنه راكم أو لم يراكم أخطاء، أو إبعاد محمد بوسعيد، لأنه كان مظلوما في تعيينه أصلا وزيرا للسياحة أو لم يكن كذلك، أو تعيين إدريس لشكر، عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، وزيرا مكلفا بالعلاقات مع البرلمان ليكف عن الصراخ بمناسبة وبدون مناسبة، ولكن الجديد في هذا التعديل هو طبيعة وصفة الشخصيتين اللتين عُينتا على رأس وزارة الداخلية والعدل. فكل من الطيب الشرقاوي ومحمد أحمد الناصري يعتبران رجلا قانون بامتياز، فالأول خريج مؤسسة النيابة العامة، وكان شغل منصب الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالدارالبيضاء، وتزامن ترؤسه للنيابة العامة بجهة الدارالبيضاء، انطلاق ما سُمي "حملة التطهير"، نهاية التسعينات ضد كل أشكال التهريب والمهربين، والتي قادها وزير الداخلية آنذاك الراحل إدريس البصري. وخلالها كان الطيب الشرقاوي يُتقن حسن التملص من عائلات كبار الشخصيات المعتقلة في سياق الحملة المشار إليها، حين كان البهو المؤدي إلى مكتبه يمتلأ بأفراد هذه العائلات التي استغرب أغلبها جرجرة ذويها إلى القضاء. بعد هذه الفترة اختير الطيب الشرقاوي ليكون على رأس مديرية الشؤون الجنائية والعفو، وهي ذات مكانة إستراتيجية لاقتحام عوالم مسؤوليات جسام في قطاع القضاء والعدل، واتضح ذلك على الأقل بالنسبة للطيب الشرقاوي، إذ عين بعدها وكيلا عاما للملك لدى المجلس الأعلى، ثم عين أواخر شهر يوليوز الماضي رئيسا للمجلس الأعلى، إذ عوّض إدريس الضحاك، أحد كبار رجالات القانون، بعد شغله منصب الأمين العام للحكومة. ووفقا للمسار المهني للطيب الشرقاوي، فمنطق الأمور يؤكد أن تعيينه وزيرا للداخلية يرمي بالأساس إلى تغيير جلد هذه الوزارة وجعلها تشتغل وفق القانون، وتحترم المساطر القانونية المنصوص عليها في الترسانة القانونية المغربية، يُضاف إلى هذا أن مبدأ الجهوية الموسعة يفرض التسيير بالقانون والاحتكام إليه. أما النقيب محمد الناصري، الذي عُين وزيرا للعدل، فرغم أنه يبدو رجلا متحفظا، وحدوديا، فإنه يبقى من طينة كبار رجال القانون في المغرب، فهو محامي ونقيب سابق، وحصل في وقت سابق على عضوية في المجلس الدستوري، خبر عقلية المتدخلين في العدل والقضاء، مطلع على ملفات كبرى، وهو محامي مقرب من ذوي القرار. كان هذا جانب مما يميز الرجلين، ولا أدري إن كان هذه الميزات ستنفعهما وهما يباشران مهامهما في وزارتين تضمان "أغلظ مسامير الميدة، وأكثرها مناعة عن الاقتلاع". كان الله في عون مولاي الطيب، والنقيب الناصري. ومع ذلك يمكن التأكيد على أن الدولة أبانت عن رغبة أكيدة، على الأقل في الشكل، في إعمال القانون واحترام ثقافة حقوق الإنسان، وإصلاح القضاء. * صحافي مغربي