لن يتفق أحد مع الأغنية التي أداها الفنان الشعبي الراحل الشيخ إمام عيسى وهي من كلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم والتي يؤله فيها الشعب ويبرزه في صورة القادر على فعل أي شيء متى شاء.. صحيح الشعب قوة ضاربة فاعلة لكن الوصول إلى هذه المرتبة ليس بالأمر الهين بل يستوجب توفر شروط ذاتية بالأساس فالشعب ليس إلها وليس حتى ملاكا منزه عن الأخطاء والخطايا. وتكفي جولة صغيرة في الحافلة أو القطار أو حتى الشارع لترى مقدار الأخلاق التي يجب تغييرها فينا كمواطنين لنستحق شرف الانتماء إلى الإنسانية بمفهومها الجميل. في مجال التجارة يخيل إليك وكأنك وسط ذئاب تتربص بك لتنقض عليك وتروج لك بضاعتها بثمن يفوق قيمتها الحقيقية بفارق كبير.. ويحكي أحد الزملاء أن بائعا كاد يتسبب له في كارثة بعدما باعه منظم انبعاث الغاز من القارورة به عيب كبير، ومن لطف الله به اكتشفه قبل وقوع المصيبة. وما يجري في سوق العقار مؤشر على مدى الانحطاط الذي وصلنا إليه: ولا يكاد المرء يصدق أن منزلا متواضعا من ناحية البناء والهندسة والتصميم يصل ثمنه إلى 140 مليون سنتيم فقط لأن صاحبه أراد الاغتناء بين عشية وضحاها مهما كانت نوايا المشتري وأهدافه. والسماسرة أكبر المستفيدين من هذا الوضع البائس وكل ما يهمهم هم وأرباب العقار هو الربح البشع وتراهم يستقبلونك وأنيابهم مكشرة يخبرونك بأن ثمن المنزل مستقل عن المبلغ – النوار – الذي يحب صاحب المنزل أخذه بعيد عن الرقابة . إضراب عمال النقل الحضري خلال الأيام الماضية كشف بدوره القناع عن مدى "سمو" أخلاق بعض منا للأسف الشديد.. فرأينا بأم أعيننا كيف أن اندفع أصحاب الطاكسيات والخطافة وكل همهم نهش لحوم البسطاء وفقراء البلد، الذين صاروا يؤدون يوميا ضريبة جديدة مقدارها على الأقل 40 درهما لفائدة هؤلاء الإرهابيين الجدد الذين استغلوا الفرصة لنهش ما تبقى من لحوم إخوانهم في الفقر والحاجة. ولم يتوقف الأمر عند أصحاب الطاكسيات والخطافة بل انتقلت العدوى إلى أصحاب السيارات الخاصة، ومنهم أطر عليا، فتحوا أبواب سياراتهم الفارهة للمواطنين مقابل 10 دراهم أو أكثر. ومقابل هذه الصورة البشعة كلنا نتذكر مأساة سكان غزة خلال يناير الماضي وكيف سطروا أروع صور التضامن وصواريخ العدو تنهال عليهم من السماء والأرض، وخذلان بني ملتهم يتكلف بطعنهم من الخلف.. وهو الحال نفسه الذي رأيناه في اليابان أيام زلزال كيوطو عام 1995 وكيف انتظم المواطنون فيما بينهم لدعم من يحتاج إلى الدعم أولا.. أما نحن، فبسبب إضراب بسيط تقدم الجميع لنهش لحم الجميع. "" وداخل الحافلات ووسائل النقل الأخرى، ترى المرضى والشيوخ والعجائز واقفين بينما الشباب في عنفوانه جالس وعلامات اللامبالاة بادية على وجهه.. نفس الأمر نلاحظه في طوابير الانتظار داخل المؤسسات العمومية حيث يتزاحم الصغار مع الكبار ولا يرأف أحد بأحد. الغريب أن كل من يجد بيده سلطة من أي نوع لا يهدأ له بال حتى يمارس شططها ببلادة على من هو أدنى منه، في "سلسلة غذائية" لا تكاد تختلف عن مثيلتها لدى الحيوانات. وترى أحدهم لا يجد في جيبه أو قلبه مكانا لأبويه أو أفراد عائلته، بينما يتقدم رفقة خلانه أو خليلاته دون حياء إلى متاجر العاصمة الكبرى لشراء ما يسكر عقله، وثمن قارورة واحدة تكفي لرسم فرحة كبرى على وجه أمه المريضة وأبيه الفقير. ولا تكفي كل أوراق الدنيا للحديث عن مآسي ما بعد منتصف الليل على نواصي الشوارع ومقرات الفنادق المصنفة وغير المصنفة، وكلها مآسي يبقى ضحيتها الأول والأخير المواطن البسيط.. وحتى داخل عالم المؤسسات الإدارية ترى الموظفين في واد والمواطنين في واد آخر، وبدل الإسراع في تقديم المساعدة للناس والإسراع بقضاء حوائجهم يبقى الصراخ والإهمال وحتى الفرار الحل الوحيد، ليجد المواطن نفسه مجبرا على الانتظار وإضاعة مصالحه ووقته لتلبية النزوات السادية لدى البعض. وداخل المستشفيات الصورة أبشع لأنها مرتبطة بصحة المواطن ومصيره.. وترى الأطباء يقهقهون فيما بينهم والمريض ينازع سكرات الموت، ولا يجد أحدهم حرجا في الخروج لتدخين سيجارة أو الرد على الهاتف تاركا مريضه أمام ممرض متدرب يجد في الجسد المنهك أمامه حقلا مناسبا للتجارب من كل نوع.. وعلى قارعة الطريق لا يجد البؤساء المرضى من اللصوص في سرقة ونشل الأبرياء أو جرحهم أو ضربهم أو حتى اغتصاب الجميلات منهم ما يثير في نفسهم أدنى شعور بالذنب أو المسؤولية، بل إن الحديث عن المسؤولية مع هؤلاء مبعث حقيقي على الضحك.. أضف إلى كل هذه الألبوم المجتمعي صورا أخرى في المؤسسات التعليمية والإدارية والفنية والإعلامية... إلخ. لكن لحسن الحظ ربما الصورة رغم سوداويتها الآن، إلا أن بعض نقاط الضوء فيها تثير الأمل في النفوس بأن الأوضاع إلى تغيير إن شاء الله، ومنها صورة الشاب الذي يترك مكانه للشيخ داخل الحافلة، أو ذلك الميسور الذي يركب سيارته ويقطع مئات الكلمترات لتقديم مساعدة لعائلة من أربع معاقين، أو حتى ذلك المعلم الذي يخصص طرفا من ميزانيته البائسة أصلا لشراء ملابس لتلاميذ لم يمنعهم الفقر من الاستمرار في الحضور إلى المدارس..وهنا مربط الفرس، فالأمل معقود على هذه المدارس لينبعث منها جيل جديد يجعل من سلوكاتنا الحالية مجرد تاريخ مضى غير مأسوف عليه.. [email protected]