(الجزء الأول) أثار مقال "إيمان أم اقتناع؟!" الذي نشر على صفحات جريدة هسبريس الإلكترونية على الرابط http://www.hespress.com/writers/146371.html في الأيام القليلة الماضية حول موضوع سبيل وماهية الاعتقاد الغيبي بين الإيمان والتصديق والتسليم من جهة، والبرهنة والاستدلال والإقناع من جهة أخرى، أثار هذا المقال عددا من التعليقات تبلورت سجالا كلاميا بين فريقين متعارضين يساند كلُّ واحد منهما رؤية معاكسة للآخر حول مدى عقلانية الدين وحقيقة وجوده، مقابل "خرافيته" وبالتالي عدم صحة وجوده.. وبما أني رأيت -في المقال المذكور- صحة وحقيقة وجود الدين كمكون غيبي في حياة الإنسان شرعه موجد الوجود، وأنه إيمان وليس اقتناعا، فإنه لا يجدر ربي الالتفات للتعليقات التي كانت في هذا الاتجاه، وإنما سأحاول التعرض بإجمال واقتضاب لتلك التي رأت أن مطلق مبدأ التدين هو خرافة مختلقة مفتعلة موظفة من طرف نفر من الناس لسيادة بقية الشعوب وسياستهم،، وهي في الوقت نفسه حاجة نفسية فردية تعوض خصاصا في الجانب الانفعالي لشخصية الإنسان، وذلك بسبب الجهل والخوف، كما تلبي احتياج الإنسان للشعور بالطمأنينة بعد الموت، لأنه في الواقع لا يتقبل فكرة الفناء.. وأصحاب هذا التوجه العام هم فئات: منهم من ينكر الدين(عامة) عقلا ويكتفي، ومنهم من ينكره لأنه خرافة ويربط به المثالب، ومنهم من يركز على نبذ الإسلام بالذات كونه سبب التخلف في مقابل الحضارة الغربية(مع أنهم يتناسون أنها -مبدئيا- متدينة) العقلانية المتقدمة النموذجية المثالية... لذا سأحاول التعرض لمجمل هذه الفئات. غير أني لا أصبو أن أحول الموضوع إلى مراجعات في علم العقائد أو علم الكلام أو علم الأصول أو المنطق... وإنما يكفيني ذكر عموميات وإيراد ملاحظات عامة ظاهرة تفي بالغرض وتؤدي المطلوب وتوصل المرغوب، مبتدئا برصد تناقضات ظاهرة في دفوعات القوم، لا أدري والله كيف خانهم بناؤهم كي تتسلل إلى صلب الاستدلال.. تهافتَ أصحابنا -الذين لم يمتلكوا الشجاعة الأدبية للإفصاح عن هويتهم الحقيقية، متنكرين وراء ألقاب سريالية- تهافتوا في تعليقاتهم وتسابقوا وتنافسوا في إثبات صدق دعواهم معتمدين على اجترار ما ورد في "الكتب الصفراء" في نسختها الغربية من جدليات هلامية وسفسطة بيزنطية، ساقطين في معرض تركيبهم لأطروحاتهم في تناقضات لا يمكن أن تفسرها إلا فطرة التدين من جهة، وعناد الجاحد من جهة أخرى، نورد بعضها بأخطائها المطبعية -بكل أمانة- مطردة: {الم يدع ابراهيم ربه ان يريه كيف يحيي الموتى ، فلما ساله ربه ان كان مومنا قال له بلى ولكن ليطمئن قلبي، الم يطلب موسى مشاهدة ربه ؟هدا يعني ان التصديق لا يكتمل الا بالاطمئنان كما سماه ابراهيم، و الاطمئنان لا يتحقق الا بالعقل او بالتجربة العلمية، وهي المشاهدة في حالة ابراهيم وموسى}، {ادا كنا نحل مشاكل الميتافيزيقا والوجود بالتصديق القلبي، وندبر امر معيشتنا بالغريزة والطبع، فما هو دور العقل ولمادا خلقه لنا الله؟}، {طبعا للقعل دور في انتاج الحلول العملية ولكن دوره الاساسي هو التفكير الوجودي الميتافيزيقي، حتى القران يحث على التامل في الوجود وليس فقط تدبير العيش}... فكيف يستقيم الاستشهاد بمضامين قرآنية استغاثة لمن يدعي الإلحاد؟؟!!! تناقضات أصدقائنا لا تحصرها النصوص، بل يشملها المنهج أيضا. فبالنسبة إليهم كل فكر إنساني أو علمي هو مقبول ماضيا كان أو مستقبلا، قريبا كان أو بعيدا، لا يحتاج إلى تمحيص ولا عقلانية ما لم يكن ذا خلفية دينية!! مع أن نفس منهج نقل مصادر سقراط وحمو رابي، هو منهج نقل مصادر يوحنا وجابر بن عبد الله: النقل.. فلماذا يتم قبول ما نقل عن أحدهم، ولا يتم ذلك بالنسبة للآخر، مع وجود قوة سند وعضد بتدوين عند هذا الآخر؟؟ يطرح السؤال بهذه الصيغة لأن أصدقاءنا لا يتعرضون لتحريف أصاب مصادر دين معين فأصبح "فاسدا" كليا أو جزئيا.. فهذا موجود أكيدا تماما كما يكون الزيف والتزوير والتحريف قد طال أحداثا تاريخية ونظريات فكرية أو فلسفية، لكنهم ينفون مفهوم الدين من حيث مبدئه!! فلا "يعقل" أن يكون النقض المطلق "للنقل" في حقل معين دون استحضار أية هوامش، والقبول المطلق به في حقل آخر.. بهذا المنطق يصح لأحدهم أن يدعي أنه لم يمر في تاريخ البشر أصلا إنسانا عرف باسم أفلاطون، ولا مدوَّن متعلق بمسمى المدينة الفاضلة، وإن وجد موضوع وذات فليس ملزما أن يَربط علاقة بينهما ما دامت قد نُقلت له... ويكون بصدد هدم تاريخ البشرية أجمعه من القواعد"النقلية".. نعم، لو تعلق ادعاؤهم بدين معين لأمكنت دراسة صحة متونه بأساليب تدقيق المرويات، عبر اعتماد دراسة الأسانيد، وإعمال طرق الجرح والتعديل لغربلة وتمييز الصحيح من المكذوب، كما هو معمول به في مثل هذا المجال.. فعلا، من المعروف أن الدين ليس عقلانيا بالمفهوم الجاف المجرد العام الشامل المطلق للعقلانية، وذلك لأن منهج الاستنباط العقلي يحدده الحقل المعرفي والنسق الابستمولوجي.. غير أنه: - ليس الدين هو الوحيد الغير عقلاني، فالامتناع عن أكل لحم الإنسان، وارتداء لباس في مناخ لا يتطلب حماية أو تكييفا للجسم(لأن اللباس، كما هو الأكل، هو شيء وظيفي يستعمل عند الحاجة فقط)، ومضاجعة المحارم، و المساعدات الاجتماعية... كلها أشياء وتصرفات غير عقلانية بمفهومها الذي ذكر سابقا.. وإنما يجب تدخل عنصر آخر يحدد للعقل مجالا معينا يكون الاستدلال فيه وفق رزنامة محددة تتضمن أوليات ومسلمات واستلزامات منطقية وفق المجال المذكور.. وليس المقصود قبول ما ليس عقلانيا فقط لوجود أمثاله، وإنما التدليل هو على أن العقلاني وغير العقلاني ينظر إليهما في مجال تعريفهما؛ - أليس في الرياضيات(نموذج تمظهر العقلانية في شكلها العلمي) La notion d'admettre, et le raisonnement par récurrence s'appuyant sur l'admission؟؟ إذن، أليس هناك مرحلة أو موقف يستلزم التقبل والتسليم، يبنى عليه بعد ذلك منطق وبرهان؟؟ إن الدين تكاليف والتكليف مرتبط بالإرادة المساءلة، أما الاستدلال فهو مرتبط بقدرات عقلية، وهي غير مضمون توفرها لدى الجميع.. إن البديل عن الخلق والقصد لن يكون سوى الصدفة والعبث، والصدفة تنافي الإرادة، والقاعدة الأولية تقضي بالحصول على نفس النتائج انطلاقا من نفس الأسباب، فما أو من الذي جعل الاختلاف في الكون -ما دام هناك إجماع على أن له بداية- وقد انبثق من سبب واحد في لحظة واحدة؟؟ بل ما هو الباعث الخفي الذي أوقف الميكانيزم العلمي الموحَّد في تكوين وانهطال المطر في جغرافيا طبيعية ممتدة من حيث التضاريس والغطاء النباتي(أقصد ما أو من الذي خلق أو جعل الاختلاف في الضغط الجوي وحرارة الجو... وغيرهما من عوامل التساقط في بيئة واحدة؟) من الذي جعل الكروموسوم الأنثوي للبويضة يلتحم بالكروموسوم الأنثوي أو الذكري للحيوان المنوي، كل هذا مع ثبات وديمومة الوضع التالي: وجود شحنة كهربائية قارة الإشارة في الكروموسوم الذكري للحيوان المنوي(Y)، وشحنة كهربائية بإشارة قارة معاكسة في الكروموسوم الأنثوي(X) لنفس الحيوان المنوي، وشحنة كهربائية مترددة الإشارة في كروموسوم البويضة(X)؟؟ إذا لم تكن الصدفة، فيجب تدخل إرادة لتحديد أي كروموسومي الحيوان المنوي يجب أن يلتحم بكروموسوم البويضة(في الحقيقة تحديد الإشارة المترددة لحظة تقارب كروموسومات الجنسين).. الدين -كما قلت في المقال المعني- مرتبط بالإيمان، وهو ضد الهوى ومنها الأنانية وتأليه العقل وتضخيم الأنا وجنون العظمة و"الشوفينية المفردة".. الدين هو الناظم عندما تعجز المادة، لأن العقلانية تأبى الأخلاق المجانية التي هي منافية للعقل المتسم بالبراكماتية.. إن ماهية عدم وجود خالق عند أصحابنا ما هي في الحقيقة إلا جهل، لأن المعرفة وجود والجهل عدم، ذلك أن الجهل بالشيء هو تمثل عدم وجوده بالفعل، وهذا لا يعني أبدا عدم وجوده بالقوة، وعندما تتحقق المعرفة فإنها لا تفعل غير تحقيق وجود بالفعل بعدما كان موجودا بالقوة.. الغريب أنهم لم يأخذوا من عقلانية الآخر غير عقلانية "اللادينية" والحرية الجنسية.. لا علم لا تقانة لا آداب لا تربية.. فأصبحت المعادلة عندهم بسيطة مختزلة: العقلانية=الإلحاد و الإلحاد فقط!! كل ملحد فهو عقلاني، وكل عقلاني يجب أن يكون ملحدا، وكل متدين فهو خرافي.. عقلانيتهم لها بعد واحد عام شامل مجرد شمولي، يعم جميع حقول المعرفة، وكل مكونات الشخصية، ومطلق حاجات وتطلعات النفس البشرية.. مشكلة أصدقائنا أنه لو قيل لهم أن حقن فأر سيبيري بزئبق أحمر يحيله ديناصورا، لصدقوه دون تردد بحجة أنه العلم!! مع أن كثيرا من هذه البحوث المزعومة لم تخرجنا حتى من الجدلية الأزلية المتعلقة بنفع وضرر البن والشاي!! مصيبة أصحابنا أنهم يتهمون غيرهم بما هو متمكن منهم.. فهم من عطلوا قدراتهم وعقولهم وسردوا ببغائية أقوال غيرهم، ولم يكلفوا أنفسهم الخاملة عناء ذرة تأمل فيما يجترون، ولا قطمير تأليف من نسجهم!! حقيقة إنها موضة التخبط.. إنه اجترار قيء متغير في بعدي الوجود: الزمان والمكان.. تقليد لما كتبه العاطلون المفرَغون وانبهار بما قال عنه [فرانسيس بيكون] أن {القليل من الفلسفة يورث الإلحاد}.. نفث سم زعاف وخبث مؤامرات.. باختصار: القيام بالدور المنوط بجنود إبليس.. عدا عن خزعبلات العاطلين السفسطائية، تعتبر العلوم المادية الحقة الدقيقة مجالا لبروز نوع معتبر من التفكير العلمي، وفي هذا الإطار، ما يكون موقع فطاحلة تلك العلوم سواء منالمسلمين أو من الذين أسلموا، أو بالنسبة لغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى ما دمنا نتحدث عن مبدأ الدين؟؟ ما موقعهم في سلم ترتيب العقلانية عند أصحابنا؟؟ فقط للاستئناس، على المستوى الكمي، وحدهم عشرات آلاف الملاحدة الموجودين فوق الكوكب اليوم هم العقلانيون العاقلون المتعقلون الموضوعيون المتجردون الواعون المدركون الكنه والجوهر والماهية والمظهر بالمعنى المطلق!! المقاربة هنا تلامس إنكار هؤلاء لمطلق الدين دون ميز ولا صرف ولا عدل، مقابل تدين "كل" سكان الكوكب، مع اختلاف الأديان.. أما مسألة تعدد الأديان وتعارضها فهو لا ينسفها من الأصل، تماما كما لا ينسف اختلاف الروايات حول ظروف وحيثيات ومعطيات غالبية الأحداث التاريخية وقوعَها على أرض الواقع.. يتبع..