إن أي كتاب أو جريدة ورقيين كانا أم رقميين،إنما يهدف أصحابهما بغض النظر عن أحوالهم النفسية وأهدافهم الغير المعلنة - إن وجدت - إلى توصيل أفكار والتعبير عما يخالج العقول والصدور، وليس للقارئ النهم - وأقول القارئ- إلا أن يقابل حاملات هذه الأفكار والتعابير - مقالات ونصوص - بقراءتها ومناقشتها ونقدها دون تسرع أو استعجال أو إقحام لأحوال نفسية غير منهجية ، بل بتمحيص وتأن وإحاطة بجوانبها، والنقد هو غير الإنطباع كما أشرت غير ما مرة، فالنقد له ضوابطه وشروطه أما الإنطباع فهو نتيجة مايتبادر إلى الذهن إثر قراءة أولية ناقصة للنص دون ما إحاطة بجوانبها والمسألة ليست بسيطة وسهلة إذا ما أردنا الإرتقاء،فغاية النص أو المقال هو الحث على مزيد بحث واستطلاع واستعلام حول موضوعه لأنه يستحيل على أي كاتب أن يصب كل ما يتعلق بالمسألة في أسطر قليلة ومساحة ضيقة..والكاتب نفسه قد يهدف من وراء نشر أفكاره إلى تلقيحها بأفكار الآخرين، والمرء يظل يتعلم من مهده إلى لحده،وفي الحقيقة لا وجود لمسمى العالم إلا مجازا إذ كما قال الشاعر : ... حفظت أشياء وغابت عنك أشياء !! فالله وحده يعلم كل شيء والبشر ما أوتي من العلم إلا قليلا..غير أننا نحن العرب ليس لنا حظ من هذه القاعدة أي قاعدة "تلاقح الأفكار" من منطلق النقص العام والمشترك بين فئات بني البشر جميعا ! بل نحن أصحاب مبدأ :"تصارع الأفكار" بصرف النظر عن قيمتها ومنطقيتها،وأسس هذا المبدأ تتمثل في : العناد والإقصاء والإعتقاد الوهمي في الكمال الذاتي،رغم أن كل الظروف والمؤشرات تنبئنا أننا اليوم أخس أمة على وجه الأرض علميا وأخلاقيا،فانظر إلى ألوان المفاسد إلا وتجدها مجتمعة لدينا للأسف.وأنا دائما أتعلم ألا أسير مع الخطابات المزيفة للواقع والتي لاتزال في مثالية مفرطة،وأننا في نومة سباتية لا في يقظة حضارية ! للأسف الشديد جاءنا منهج الله بمبادئ عظيمة يمكن أن تؤسس لنهضة حضارية متكاملة وشمولية،ونحن تعلمنا مناقضة هذه المبادئ وتعلمنا كيف نبرر انحرافنا عن منهج الله انطلاقا مما نتصوره خطأ أومكرا وتزييفا ذا صلة بهذا المنهج..لذلك تجد كل فرقة أو تنظيم يزعم انتسابه للإسلام يعتقد المطلقية في نفسه وينطلق من الإسلام ذاته لإلغاء الآخر ونقضه بدل نقده !! مع أن هذه الفرق والتنظيمات لا تدعو حقيقة لو تأملنا إلا إلى زعماءها ومنهجها لا إلى الخالق سبحانه، إذ تعلم تقديس فهوم الزعماء واعتقاد المطلقية فيهم مع أن الإسلام ذاته يعلمنا مبادئ تليق بنا كبشر، مبدأ النسبية المتجلي في كثير من الآيات ومبدأ متفرع عنه هو النقص في العلم (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)..كما يبرر الإستبداد بنصوص منزوعة عن سياقاتها التاريخية والظرفية ! ليتكرس الحكم الثيوقراطي باسم دين علمنا أننا نحن البشر نسبيون مايستدعي استشارة ذوي الخبرة والمعرفة وفق مبدأ (وأمرهم شورى بينهم ) و (...ولاندم من استشار )..يمكن أن نخدع الناس بتقرير آليات إجرائية توهم العمل بهذا المبدأ بينما الجوهر شيء آخر.. لاشك أن الإنسان كائن نسبي خلقه الله سبحانه..لكن هذا الإنسان يأبى إلا أن يتأله وألا يعترف بمخلوقيته فتراه يوغل في الظلم بشتى أصنافه ويتعامل مع الناس-أمثاله- من منطلق الإقصاء والتخطئة والنقض وللأسف هذا النوع من البشر يكاد ينحصر جغرافيا في منطقة العالم العربي..حيث يسود تفكير واحد وتصور واحد هو تفكير السيد وتصوره،هو القطب والمركز الذي ينبغي أن تحوم حوله كل التصورات والأفكار التي ينبغي أن تتملقه وتبرر له! فكانت النتائج مانراه،أما الأفكار المعارضة فنصيبها القمع والحصار! فردانية فردية وتنظيمية هي الأخرى سرت إليها هذا الأحادية التفكيرية والتصورية..ثم صراعات مزقت أوصال هذه الأمة التي لم تستفد شيئا من كلام ربها.. لقد تعلم أفراد الأمة منذ بداية الغزو الصليبي لبلاد الإسلام كيف يحومون حول فكر واحد وفهم واحد مقدسين خانعين، هو فكر القطب ! والحقيقة أن فكرة القطب لم تظهر لدى الصوفية وحدهم..صحيح أن التسمية ظهرت لديهم وحدهم لكن المضمون عرف في الأوساط السياسية والفقهية أيضا..فكما ظهر في التصوف مريدون خاضعون للشيخ القطب - والقطب في اللغة هو المدار وفي اصطلاح الصوفية شيء عجيب يجعل من الشيخ إلاها!([1] [1]) - ظهر في السياسة رعايا لا يجرؤون على مخالفة "أمير المؤمنين" وهذا ظهر قبل زمن الحروب الصليبية،وظهر في الفقه تلامذة اكتفوا بمعلومات "الشيخ العلامة قدس الله سره" وألفوا حولها ووضعوا المتون التي قتلت العلم وخرجت على الفقه ثم قالوا إن باب الإجتهاد مغلق ! والفرق بين القطبيات الثلاث هو أن قطبية السلطان الحاكم مفروضة بالصولة والصولجان وسيف مسلط على رقاب الرعايا في حين أن قطبية الشيخ الصوفي تسلط روحي مصحوب بمحبة المريد وخضوعه التلقائي وقطبية الشيخ الفقيه تسلط علمي مصحوب بمحبة التلميذ وخضوعه التلقائي كذلك..ولذلك فالسلاطين قد يحسدون الشيوخ على سلطاتهم الروحية التي يأمنون فيها الإنقلابات والإغتيالات والمعارضات ! هي وساطات: روحية وفقهية وسياسية،الأولى تحتكر فهم الدين وكيفية التعبد والأخرى تحتكر فهم الدين من حيث الأحكام الفقهية وتلزم بالإنقياد لها والثالثة تحتكر تدبير الشأن السياسي دون معارضة حقيقية ! والجدير بالذكر أن التسلط السلطاني بحكم قوته وجبروته ألزم الوساطتين الروحية والفقهية بتعبئة المريدين والتلاميذ للخنوع لسياسات السلطان وصرفهم عن واقع المجتمع السياسي وكل واقع! ليصير الدين مستتبعا بالسياسة ! واليوم أيضا يعجز البعض عن الإنتقاد لبعض المثقفين والمفكرين الذين قدمهم الإعلام المتحيز على أنهم "مثقفون كبار" أو "مثقفون مجددون ومبدعون" في الوقت الذي يقوم فيه هذا الإعلام بتجاهل المثقفين والمفكرين الذين تنطبق عليهم تلك الأوصاف حقيقة..وعامة المتعلمين وأشباه المثقفين يسلطون السيوف البتارة على كل من تجرأ على انتقاد أولئك "المثقفين الكبار" ! وهذا يتنافى مع ماسبقت الإشارة إليه من مبدأ نسبية الإنسان ومخلوقيته..فمتى أدركنا هذا المبدأ وقفنا على حقائق الأمور وسعينا نحو النقد..والنقد هو اللبنة الأولى في بناء صرح التقدم ..وأي إقصاء للثقافة والمعرفة لن يزيد هذه الأمة سوى انحسارا وانحطاطا في زمن المعلومات..وللمرء أن يستغرب رغم هذا الكم الهائل من المعلومات في هذا الزمن وسرعتها يتراجع مجتمعنا ويزداد عطالة فكرية وبطالة معرفية !! 1-: أنظر تعريف القطب في كتاب التعريفات للجرجاني.. [email protected]