إن السؤال بهذه الصيغة : "ما الدليل"؟ تلقنته من أول شيخ لي في العلم أواسط الخمسينات من القرن الميلادي الذي ولى. أي في حدود 1954 م، والصراع حينئذ بين المقاومين والاستعماريين على أشده! ولم يكن غريبا عن فقهائنا وعلمائنا أن يستفهموا الطالب، وأن يستفهمهم الطالب، كلما تعلق الأمر بمعلومات يريد الشيوخ التأكد من كون تلامذتهم قد حصلوها، وأصبح بمقدورهم توظيفها بعد استحضارها، أي بعد تذكرها. ومتى لم يتمكن الطالب من استيعابها، لم يكن منه غير استفسار شيخه عنها ليزداد يقينا ومعرفة بها. بحيث يكون السؤال والجواب منهجا يقوم عليه التدريس منذ زمن بعيد،، إلى حد أن بعض الطلاب يجرأون على اختبار مدى قوة حافظة أستاذهم كي يطمئنوا إلى كونهم يأخذون علمهم عن الضابطين الذين لا يقولون بقول في هذا اليوم، ثم يتراجعون عنه غدا أو بعده. فيقولون بقول آخر، أو بتفسير آخر مغاير للتفسير الذي سبق لهم التصريح به. قال الإمام مالك: "حدثني ابن شهاب (= أستاذه) بأربعين حديثا ونيف. منها حديث السقيفة فحفظتها. ثم قلت (له): أعدها علي فإني نسيت النيف والأربعين فأبى! فقلت (له): أما كنت تحب أن يعاد عليك؟ قال: بلى! فأعادها . فإذا هي كما حفظت". (ترتيب المدارك. 1/134). فكان أن نجح الأستاذ بعد أن أخضعه التلميذ للامتحان الصعب! كما كان الإمام البخاري يختبر رواة أحاديثه في الصحيح! أما الأستاذ الصوفي أو الشيخ أو المرشد الصوفي، فيعتبر المريد الذي يوجه إليه أسئلة شبيهة بأسئلة مالك والبخاري معاقا أساء الأدب معه! لأن الثقافة الصوفية في علاقة الشيخ بالمريد، تستدعي أن يخضع المريد للشيخ خضوعا أعمى! بحيث إنه لو تشجع وقال له مثلا: لم هذه أو لم تلك لسقط من عينيه! يكفي الوقوف عند هذه المبادئ الصوفية الثلاث لندرك الفرق الشاسع بين علماء يطلبون من تلامذتهم الدليل، ويطلب منهم التلاميذ توضيح ما لم يفهموه،، بل يخضعونهم حتى للامتحان. فالمبدأ الأول قولهم: "من اعترض افترض". يعني ذهب إلى أن شيخه قد يقع في أخطاء، بينما المطلوب من المريد أن يعتقد في شيخه الكمال، أو الحفظ الذي هو عند المتصوفة بمثابة العصمة عند الأنبياء!!! والمبدأ الثاني قولهم: "ينبغي أن يكون المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل" (انظر "التصوف والمتصوفة في مواجهة الإسلام". ص155 (عبد الكريم الخطيب المصري). والمبدأ الثالث قول عبد الوهاب الشعراني في الجزء الأول من مؤلفه: "الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية" ص 26: "من شأن المريد أن لا يقول لشيخه قط لم؟ فقد أجمع الأشياخ (وهو إجماع على الضلال) أن كل مريد قال لشيخه لم؟ لا يفلح في الطريق"؟ وبما أننا كنا نحفظ ما يعرف ب"المتون" نقصد مؤلفات حول مواد علمية بعينها. كانت منثورة أو كانت منظومة. فإن شيخنا عندما نقرأ أمامه بعض النصوص، أو نعرب بعض الجمل، يسألنا عن الدليل متى رفعنا اسما، أو نصبناه، أو كسرناه. يسألنا في الحالتين: إن نحن أصبنا وإن نحن أخطأنا. فالهاء في "ضربته" ضمير متصل مبني في محل نصب مفعول به. والكاف في "سيارتك" ضمير متصل مبني في محل جر مضاف إليه. والدليل أو البرهان في الحالتين قول الناظم: والهاء والكاف إذا ما اتصلا بالفعل مفعول تقول فيهما والهاء والكاف إذا ما اتصلا بالإسم مضاف تقول فيهما ولا ننسى أن الرياضيات كانت في صورتها القديمة من ضمن المواد التي يجري تدريسها. خاصة وأن تقسيم الإرث يقتضي مهارة في الحساب. إذ لا يستطيع أي كان تقسيمه لمجرد ما يعرف نصيب كل وارث في أحوال متعددة. مما يعني أن الفقهاء لم يقطعوا صلتهم باعتماد العقل كما يريد البعض أن يوهم القراء بأنهم مجرد حرفيين نصيين. بينما تاريخ الفقه والأصول يخبر بالقدرة الفائقة لدى العلماء على تتبع النوازل التي تتطلب السرعة في إيجاد حلول فقهية لها. فما يقوم به المشرعون اليوم، داخل البرلمانات وخارجها، كان العلماء والقضاة يقومون به لمسايرة الأحداث من خلال مد الدولة القائمة بأحكام لا تقوم على مجرد الأهواء والاستحسانات . وإنما تقوم على أدلة تعود إلى عدة مصادر كلها أصول تحكم اللجوء إليها قواعد وضوابط. وعندما غادرت المدرسة العتيقة إلى المدارس العصرية. وجدت في الرياضيات مناسبة لصقل التفكير المنطقي القديم والمعاصر، أقصد المنطق الصوري المدرسي والمنطق القائم على أساس العلوم التجريبية، حيث ينطلق الأول فيما يسمى القياس من العام إلى الخاص. وحيث ينطلق الثاني من الخاص إلى العام. إنه الاستقراء الذي تجري فيه محاولات استقصاء الحالات الفردية للوصول في النهاية إلى نتائج تفيد الباحثين في أكثر من مجال. فكان أن استفاد الباحثون في مغرب اليوم من عمليات الاستقراء التي أعتمدها شخصيا في معالجة قضايا معينة. بعيدا عن إرسال الكلام على عواهنه. وإنما توثيقه وتقويمه ببراهين يصعب خرقها أو إبطالها إلا ببراهين أقوى وأشد وضوحا منها،، ما دامت العقول متفاوتة.. وما دام حق الاختلاف معطى دينيا وفكريا وقانونيا وطبيعيا قبل كل شيء! وأكثر الإسلاميين اليوم – إن كان لا بد من استعمال هذا المصطلح – درسوا الرياضيات والعلوم التجريبية، والعلوم الدينية،، منهم أطباء وصيادلة وقضاة ومحامون وأساتذة كبار ومهندسون معماريون،، مهندسون في الإعلاميات وفي الفلاحة، إلى حد القول بأنهم لم يتركوا مجالا من المجالات التكنولوجية إلى ولهم فيها، لا قدم واحدة، وإنما لهم فيها أقدام. فيصعب حينها وصفهم بنعوت تحقيرية كالسلفاويين أو الظلاميين. بينما هم قد اجتازوا مراحل طال احتكاكهم فيها بالتفكير المنطقي التجريدي والتجريبي على حد سواء. يكفي أنهم عالجوا مسائل معقدة في الرياضيات قبل الانتقال إلى المدارس الثانوية.. فكون سيارة انطلقت من نقطة "ب" في اتجاه نقطة "ج" على الساعة الرابعة بعد الزوال. وكون أخرى انطلقت من "ج" في اتجاه "ب" في نفس الساعة لقطع المسافة الفاصلة بينهما، والتي تقدر بستمائة وعشرين كلومترا. وكون الأولى تسير بسرعة 75 كيلومتر في الساعة، بينما الثانية تسير بسرعة 86 كيلومتر في الساعة. وكون الأسئلة المطروحة تقول: في أي ساعة تصل المنطلقة من (ب) إلى نقطة (ج)؟ وفي أي ساعة تصل المنطلقة من (ج) إلى نقطة (ب)؟ وعند أية نقطة كيلومترية تلتقيان وفي أية ساعة؟ بحيث يكون على التلميذ ان يجيب على الأسئلة كلها بالدقة اللازمة. والدقة اللازمة هذه نموذج لاختبار مستواه في اعتماد العقل من خلال اعتماد المنطق الرياضي؟ ونجد المنطق الرياضي يزداد تعقيدا كلما تقدم الطالب في الدراسة لغاية الحصول على شهادة الباكالوريا. وأذكر بالمناسبة كيف أننا كطلاب من مستوى واحد كنا نراجع دروسنا سويا في الرياضيات خاصة. وكانت لدينا بالمسكن الذي نقيم به، ونحن غرباء عن البلد سبورة نستعملها للتمكن من متابعة ما يقوم به أحدنا وهو آخذ في حل إحدى المسائل الواردة في كتاب مقرر. فقد كان صاحب لنا يوما منكبا على تحليل مسألة، فإذا بآخر يعترضه ويقوم إلى السبورة ليقدم حلا منطوقه قوله: بما أن زاوية "أ" تساوي 80 درجة فرضا. فإن زاوية "ب" بالدليل تساوي 50 درجة. يبقى أن زاوية "ج" تساوي كذلك 50 درجة! فعارضه أحد الأصدقاء بقوله: "باش تتساويها؟ واش بالشوفان"؟ فصح عندنا أن ردود الكثيرين على مقالاتنا تفتقر إلى المنطق بكافة أنواعه (= منطق الدين. ومنطق العقل. ومنطق التجربة). وأن المتدخلين لاعتراض آراء أو أفكار مبنية على أنواع من المنطق هذه، يستغربون ويستهجنون ويستنكرون، إنما بدون أدلة ما افترضنا أنهم قرأوه من بدايته إلى نهايته، خاصة من ينطلقون من منطقهم الطرقي، بل وحتى من منطقهم العلماني. فقول أحدهم: ليس التجاني حده من كذب على الرسول، وإنما كذب عليه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والبخاري ومسلم وغير هؤلاء!!! مما يجعلنا نتنزه عن مقارعة هؤلاء بالحجج الدامغة وإنما بمواصلة سيرنا في طريق تنبيه الأمة إلى المخاطر المحدقة بها عن طريق استغلال الدين على المستوى الرسمي، كنهج لتقوية المركز السلطوي للحكام. وأذكر بالمناسبة أنني كتبت أنفي في مقال لي أن يكون أحدهم موجودا في مكانين وفي نفس الوقت. إنه بطنجة وبتطوان وبالناظور في الساعة نفسها. وهي أحوال مسمى الأبدال لدى الصوفية، إذ أن هذا الزعم الصوفي الطرقي زعم ظلامي مرفوضا عقلا ودينا. والحال أن القرآن دعا في غير ما آية إلى استعمال العقل.. مع امتداحه لقوم يعقلون! لكن بعض المعترضين أجازوا ما لم يؤكده الدين ولا أكده العقل والحس أو التجربة! فالكتانيون يزعمون بأنه ص يحضر إلى الزاوية متى قطع الفقراء مرحلة محددة من أداء مسمى الأوراد أو الأذكار. إذ عندها يهرعون بسرعة إلى الباب كي يستقبلوه.. دون أن يقف الفكر الظلامي عند هذا الحد.. فهناك أفظع مما ذكرناه بخصوص الإلقاء بمختلف أنواع المنطق المذكورة قبله في سلة المهملات. ففي "لطائف المنن" ص 111 لابن عطاء الله السكندري. يقول شيخه أبو العباس المرسي: "كنت ليلة من الليالي جالسا بالأسكندرية أكتب كتابا لبعض أصحابنا، وإذا بالشيخ خليل هذا في الهواء. فقلت له: إلى أين انتهت سياحتك في هذه الليلة؟ فقال: خرجت من نشيل وانتهيت إلى جبال الزيتون بالمغرب الأقصى. وأنا أريد أن أذهب إلى بيت المقدس وأعود إلى بلدي. ولو بسط لي أكثر من ذلك لانبسطت. قال الشيخ: فقلت له: "ليس الشأن أن تذهب إلى جبال الزيتون وتعود في ليلتك. ولكن أنا الساعة، لو أردت أن آخذ بيدك وأضعك على قاف وأنا هنا لفعلت"! والقاف الوارد في كلامه هو الجبل المحيط بالدنيا كما يزعم المخبولون من المتصوفة الذين يرجمون بالغيب! وعندي أن الجيل الحالي من الشباب المتشبع بالمنطق الرياضي والتجريبي، لا بد أن ينتصر للعقليات بدل الانسياق وراء الخرافات التي ألزمت نفسي منذ عقود بالمساهمة في تحرير العقلية المغربية منها، ليقيني بأنها (أي الخرافات) لا تفيد غير المشتغلين بها من ناحية، والدولة التي تحميهم وتمدهم بالمساعدة المادية والمعنوية من ناحية أخرى! كي يبعدوا شعبنا عن التركيز على المطالبة بحقوقه الكاملة من حرية وديمقراطية وعدالة وكرامة وفرص متساوية أو متكافئة. فإن قلنا لهم مثلا – أي لخصوم العقل وأنصار الظلام – إن قراءة الجمع للقرآن ليست من فعل الرسول، نراهم ينتصرون للبدعة، ناسين بأن القراءة تلك من ضمن وسائل الدولة لتقوية وجودها، وللحرص على إظهار تعلقها بالدين، الذي تحول على يدها إلى مجرد أقوال مشوهة في شتى الميادين! ونحن لن نجانب الصواب إن أكدنا بأننا لم نؤمر قط باتباع غير الرسول في الأقوال والأفعال والتقريرات. وحتى إن نحن تمذهبنا بمذهب فقهي ما، فلقناعتنا بأن من تمذهبنا بمذهبه متشبث بالكتاب والسنة، وإلا فلا داعي للتمذهب بمذهبه. وبما أننا ملزمون باتباع السنة والكتاب، لا باتباع الرجال والحكام فيما يتعلق بديننا، فإن كل من خرج عن كتاب الله وسنة نبيه، لا يستحق التقدير ولا يستحق الاحترام! ونحن عندما نقول بعدم سنية قراءة الجمع للقرآن، فلأننا مصرون على تنفيذ أمر الله في اتباع سنة مجتباه. فقد أخبرتنا السيدة عائشة بقولها: "ما كان رسول الله ص يجلس بعد الصلاة إلا قدر ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام"! وقالت أم سلمة: "إن النبي ص كان إذا سلم يمكث في مكانه يسيرا. قال ابن شهاب (أستاذ مالك): فنرى والله أعلم، لكي ينفذ من النساء" (انظر صحيح البخاري). وقال أنس بن مالك: "صليت خلف النبي ص فكان إذا سلم يقوم. وصليت خلف أبي بكر رضي الله عنه. فكان إذا سلم وثب كأنه على رضفة (أي الحجر المحمي). وقال ابن عمر: جلوسه (أي الإمام) بدعة". وقال مالك في "المدونة": "إذا سلم (أي الإمام) فليقم. ولا يقعد إلا أن يكون في سفر أو فنائه". فدل ما قدمناه من أدلة – ونحن نطالب معترضينا دائما بأدلتهم على ما يدعونه – نقول: دل ما قدمناه على أنه ص لا يدعو جماعة بعد الصلاة! ولا يقرأ القرآن جماعة بعدها! ومن ادعى أنه يفعل ذلك، فليقدم الدليل؟ أما أن يدعي بأن فلانا أو علانا فعله، فمعناه أن من فعله ويفعله، يستدرك على الرسول ويخطئه؟ ومن خطأ الرسول خطأ الله ذاته؟ عندها لم تكن لقوله عز وجل: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" أية قيمة؟ www.islamthinking.blog.com [email protected]