نعم نحن شعب أمي متخلف، و لا داعي لإخفاء رؤوسنا في الرمال ... و أكبر دليل على كلامي أننا صرنا من الماء إلى الماء أمة على شاكلة "قصعة" تتكالب عليها الأمم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم... انظروا حولكم إلى فلسطين و العراق و السودان، انظروا في سوريا و الجزائر و المغرب... ماذا ترون غير الذل و الهوان و الضعف و الهزيمة؟ هل لو كنا أقوياء متقدمين نمتلك علوما وتكنولوجيا و صناعة متطورة، هل كنا سنحتل و نقهر و نضطر للركوع إلى أمريكا و إسرائيل، وكل قوي متجبر قهار فوق العرب و المسلمين الضعفاء؟ "" نعم نحن شعب أمي متخلف حتى لو أغضب هذا الكلام هواة الإختباء عن المرآة وسط رمال "الأنا الأعلى المنتفخ"من فراغ... نحن متخلفون عن ركب الحضارة لأننا أميون.. أميون، أبجديا و معرفيا... وقبل أن أدخل في صميم الموضوع دعوني أشرح لذوي "النعرة القومية الرومانسية أن الأمية " ليست مرادفا للغباء أو الجهل كما يتبادر إلى أذهانكم و تغضبون فتسبّون... فالأمية لا تعني إلا شيئا من اثنين
1_الأمية الأبجدية و التي يعاني منها 53 في المائة من هذا الشعب و ذلك حسب الإحصائيات الرسمية.
و2- الأمية المعرفية:وهي التي يعاني منها معظم أفراد تلك 47 في المائة من الذين يفكون الخط بما فيهم الأساتذة و الأطباء و المهندسين و المحامين و القضاة، وغيرهم من الفئات المحسوبة على الطبقة الوسطى، و لا مجال للحديث طبعا عن باقي الفئات الحاصلة على شواهد عليا أو دنيا...
نعلم أن هذا الكلام سيغضب الكثيرين، و لكن الغضب عموما سيكون وسيلة من وسائل الشعوب في تكريس الوعي بضرورة النظر إلى المرآة و استكناه الحقيقة بعيدا عن أية كليشيهات عاطفية لا يعترف بها لا المنطق ولا العقل... ومرة أخرى أقول لكم: كونوا صادقين مع أنفسكم: كم كتابا تقرؤون في السنة في السنة (حتى لا نقول في الشهر فتلك أمنية غالية) كم كتابا نطبع في السنة؟ كم كتابا نؤلف؟ أليس من العار أن نطبع من الكتاب الواحد 1000 نسخة على أقصى تقدير؟ ثم كم نطبع من جريدة؟ وكم نبيع منها؟ وكم نحن في حاجة للخجل من أنفسنا إن علمنا أن كاتبا واحدا في اليابان باع مؤخر50 مليون نسخة من إحدى رواياته، وأن الجرائد الكبرى هناك تسحب من مليون واحد إلى خمسة ملايين نسخة لكل واحدة منها ، و ذلك كل يوم؟
إن كنتم صادقين مع أنفسكم ومع هذا الوقع الثقافي المنحط الذي نحياه فلابد أن تعترفوا أننا أميون متخلفون... وحتى أعود لفئات الطبقة الوسطى التي أنتمي إليها بصفتي أستاذ اللغة الأنجليزية (قبل أن أكون صحفيا أو كاتب رأي) ، لعلها تقتنع بصحة ادعائي المستفز بكون معظمنا أميون معرفيا، دعوني أسوق الأسئلة التالية:
1- بالنسبة للأساتذة" بجميع أسلاكهم من الابتدائي حتى الجامعي"... كم كتابا يقرؤون في السنة؟كم بحثا ينجزون؟ بل كم محاضرة أو مقالا أو مجرد خاطرة تافهة يكتبون؟ كم جريدة يشترون؟ وهل يقرؤون الجرائد أساسا؟ وكم عملية تجديد لمعارفهم (في تخصصاتهم ) ينجزون؟ وتذكروا أن 55 في المائة من أساتذة الجامعة (ياحسرة) لم يخطوا حرفا واحدا منذ اشتغالهم...
2- بالنسبة للأطباء: كم مؤتمرا طبيا يحضرون؟ كم كتابا طبيا يقرؤون؟ وهل يدخلون الشبكة للإطلاع على آخر المعلومات الطبية والإكتشافات العلمية التي من شأنها الرفع بمستوى ممارستهم؟ ما مدى اطلاعهم على آخر البحوث و المستجدات وكم مرة طوروا من مداركهم ومعارفهم الطبية؟ ناهيك عن الكتب و الجرائد و المطبوعات التي نفترض أنهم يلامسونها على الدوام حتى تبقى صحتهم المعرفية معافاة سليمة وقادرة على الإنتاج والإبداع... طبعا لن نكون مجحفين، فنسألهم عن عدد الكتب أو حتى المقالات التي يؤلفون.
3- بالنسبة للمحامين: كم ندوة قانونية أو فكرية يحضرون؟ وكم مرة يجددون معارفهم القانونية بالإطلاع على آخر التنظيمات والقوانين؟ وكم كتابا في مجالهم يؤلفون أو مجرد مقالة يجمعون أطرافها كما تلملم القضايا من ثناياها؟...
يمكننا، أن نستمر في التعريج على كل الفئات إلى نهايتها وطرح أسئلة على نفس الشاكلة ولن تكون الأجوبة حتما إلا صادمة إذ أن قلة قليلة من كل فئة هي الوحيدة التي تمارس، بإيجابية، كل الأسئلة التي طرحناها أعلاه وهي القلة التي لا تستحق منا جميعا إلا كل إشادة و تنويه... داخل صفوف الأساتدة، الذين أنتمي إليهم وأعرف واقعهم المعرفي جيدا، أقول، وبكل حسرة وخجل، أن معظم الأساتذة لا يقرؤون حرفا واحدا طوال مسيرتهم المهنية و قليلون منهم فقط من يداوم على قراءة الجرائد من باب أضعف الإيمان وأيسر أدوات التثقيف... أما أي حديث عن التأليف أو الكتابة أو ما شابه فهو بمثابة الخيال العلمي بالنسبة للجزء الأعظم من هذا القطاع... خذوا مثلا، فمعظم أساتذة اللغة الأنجليزية يعود آخر كتاب قرأوه إلى مرحلة الدراسة الجامعية ، و كذلك هو حال مدرسي اللغتين العربية و الفرنسية، و أساتذة كثر يدرسون الفلسفة لا يستطيعون شرح الفروق بين فلسفتي هيومز و بيكون ، و سر أفضلية هذا الأخير بالنسبة للعقلية العلمية الراهنة، وأساتذة عديدون يعلّمون العربية لأبنائنا، لا قدرة لهم على فهم أسرار تحول رولان بارت من البنيوية إلى التفكيكية في آخر عهوده النقدية، أما أساتذة الاجتماعيات فمعظمهم لا يعرفون من الحقائق التاريخية إلا ما جاء في المقررات أو ما استذكروه من فترة الجامعة، لأن قراءة الكتب هي آخر شيء يفكرون فيه...و هكذا دواليك...
واقع مخزي حقا، لا يفهم منه إلا أننا بالفعل شعب أمي متخلف حتى لو آلمت البعض هذه الصراحة ألف مرة لأنها حقيقتُنا التي لا مراء فيها...
في الجزء التالي نلقي الضوء على علاقة أميتنا المعرفية على الخصوص بنعيم التخلف الذي نرتع في ملكوته..