إنها فضيحة أخرى للسلطة الفلسطينية ولمجموعة أبي مازن. ففي سابقة من نوعها تجد سلطة تناضل من أجل التحرير والاستقلال، تمنح عدوها خدمة سياسية مجانية من دون مقابل سوى وعد بوقف الاستيطان يضمنه الرئيس أوباما فيما لو صحّت رواية ران ادليست من إذاعة السلام بالقدس . لكن لو كان حقا كما حكى ادليست من أن نيتنياهو هرع إلى أوباما يتوسل إليه في إقناع عباس بوقف عرض التقرير الأخير مقابل وقف الاستيطان وتهويد القدس، فإننا بغض النظر عن التاريخ السيئ من الوعود الإسرائيلية نجد اليوم تصعيدا ممنهجا لتهويد القدس واستمرارا في موضوع الاستيطان. ما الذي حصلت عليه سلطة أبي مازن لكي تقايضه بورقة كانت على الأقل ستحرج إسرائيل أمام المنتظم الدولي وتجعلها كما شعر الإسرائيليون أنفسهم أمام وضع شبيه بوضع جنوب أفريقيا زمن الآبارتهايد. لقد اعتبرت إسرائيل تقرير القاضي اليهودي الجنوب أفريقي في إطار لجنة أممية لتقصي الحقائق استهدافا لأمنها وحقها في الدفاع عن نفسها ضد المخربين والإرهابيين. وقد أكدت تصريحات ليبرمان على أن هذا التقرير لا يتمتع بأي قيمة قانونية . فهو يسعى للرجوع بالأممالمتحدة إلى زمن تجريم الحركة الصهيونية واتهامها بالعنصرية. واصفا جيشه بأنه أكثر الجيوش أخلاقا في العالم. ويبدو لي أن من حق ليبرمان أن يتحدث عن جيش دفاعه بهذه النبرة الأخلاقية. فالنذالة التي سقط فيها قرار السلطة الفلسطينية يتيح للمحتل أن يتحدث بوقاحة عن أخلاق جيش أسس خصيصا للممارسة الاحتلال والغزو وإرهاب الدولة. فهو وحده يدرك هشاشة الموقف الفلسطيني من خلال سلطة أمضت لهم على بياض حتى في حربهم الأخيرة ضد غزّة. "" ولكن حتى لا نمنح المواقف العربية الأخرى لا سيما الصادرة عن طلائع الاعتدال مصداقية تفوق حقيقة المواقف غير المعلنة ، كان من المفترض أن تتخذ السلطة الفلسطينية بزعامة عباس موقفا كهذا مهما بلغت خطورته. لأننا لا نتصور موقفا غير كذلك بالنسبة لسلطة هشة تنتظر من سارق الأرض أن يعترف لها بحقها في بناء دولة لن تقوم على هذه المهزلة. ما يثير التعجب حقا هو المواقف التي علقت المسؤولية على السلطة وقياداتها التي لم تعد تتمتع بأي مصداقية على الأقل من قبل الشارع الفلسطيني والعربي وقد زاد وضعها هشاشة بعد تأجيل التقرير المذكور مما ألب عليها الكثير من المنظمات الدولية. السلطة الفلسطينية كما لا يخفى لا تملك قرارا. ولا يمكن أن يصدر عنها موقف أو قرار غير مملى من قبل دولة الاحتلال. متى كان قرار الضفة مستقلا عن القرار الإسرائيلي والدولي؟! فالسلطة لم تعد تسمع حتى لدول الاعتدال التي استنكرت في شخص وزير الخارجية (أبو الغيط) قرار السلطة بتأجيل تقرير جولستون. لا تستطيع السلطة الفلسطينية الغارقة في الشبهات السياسية أن تتبرأ من أنها رضخت للإرادة الإسرائيلية بخصوص هذا التقرير. لأنها لم تعد سلطة وطنية بقدر ما هي كومبارس سياسي في لعبة دولية يتأثث بها مشهد المؤامرة على ما تبقى من فلسطين. لكن ماذا في جعبة سلطة فاقدة للشرعية والمصداقية من الأمر سوى أن تبيع أيضا ما تبقى في جعبتها من مشروعية تاريخية لم تعد تنفع رموز السلطة في مجتمع فلسطيني هو في حاجة ماسة لقيادات مناضلة تقطع مع الفساد التقليدي لرموز فتح الذين أصبحوا عارا على النضال الفلسطيني وعامل حرج حتى على ما تبقى من مساحات نظيفة داخل الجسم الفتحاوي الذي لا زال يضم شرفاء ومناضلين ما عاد يرضيهم أداء وسمعة عباس وحوارييه السياسيين في الضفة. ويكفي أنه من داخل فتح من رفض هذا القرار المهين والمجحف بحق القضية الفلسطينية والشهداء الفلسطينيين الذين قضوا تحت القصف الوحشي الإسرائيلي في الحرب على غزّة. لقد تحدث القيادي في كتائب شهداء الأقصى الجناح العسكري لفتح بضرورة تنحية كل من ثبت تورطه في تأجيل البث في تقرير جولدستون أيا كان مقامه. رافضا أي تبرير بهذا الخصوص. قطعا لم يكن من المتوقع أن يحمل المنتظم الدولي تقرير جولدستون محمل الجد في ظل وجود ممارسات شبيهة لعدد من الدول التي تملك الهيمنة على هذه المنظمات الدولية هيئة الأممالمتحدة. فاللاعبون الكبار على تناقضاتهم متورطون في هذا النوع من جرائم الحرب. إن إسرائيل ناورت بما فيه الكفاية للتذكير بأن كل من يقدم على تبني هذا القرار سيكون عرضة للرد بالمثل لتورطه في الجريمة نفسها. ما كان لأبي مازن أن يكون بطلا ويمضي في طرح التقرير وهو يدرك أن ملفاته بما فيها الأكثر مراكمة للغبار، هي لدى إسرائيل ممكن أن تعرضها على السطح. وما كان للولايات المتحدةالأمريكية الغارقة في العراق والآن في أفغانستان أن تمضي على تقرير يدينها بمنطق إياك أعني واسمعي يا جارة. وفي المقابل لا روسيا التي تحمل وراءها قصة الشيشان ولا الصين المتهمة قبل فترة ببممارسات شبيهة ضد الأقلية المسلمة أو في التيبيت. نحن إذن في عالم يحمي مؤسساته متورطون في جرائم حرب. وإسرائيل التي تتوفر على قائمة كبيرة من الصداقات والتحالفات على رأسها الولاياتالمتحدة هي في مأمن من الإدانة الدولية. لا شيء تغير على الإطلاق. فالحرب على غزة تماما كالحرب على جنوب لبنان كانت بعلم واتفاق مع الحلفاء . السلطة الفلسطينية وكثير من دول الاعتدال في المنطقة انتظروا ملئ الصبر أن تبيد إسرائيل السلطة المقالة في غزة. لقد أدت إسرائيل أدوارا دولية وإقليمية. ولا مجال للحديث عن مواقف غير مسبوقة من بعض هذه الدول في تحميل سلطة أبي مازن كل المسؤولية. فأمامنا اليوم مشكلة القدس التي تتعرض لكارثة حقيقية. إذا لم يكن هؤلاء المتباكون على ضحايا غزة اليوم قد حركت فيهم تلك الحرب شعرة في رؤوس مضمخة بالهزيمة.. وإذا كانوا ساهموا في حصار غزة قبل الحرب وبعدها .. فلهم أن يكفروا عن ماضيهم الأسود باتخاذ قرارات جادة وتبني مبادرات كبيرة بخصوص قضية القدس اليوم. فدول الاعتدال خرجت مفلسة من المعادلة السابقة. وهي تملك أمامها فرصة لتصحيح مساراتها. لكنها هل ستفعل.. تلك هي المسألة! hani_dayman @ yahoo.fr