عندما يجد العقل السلفي نفسه في ضيق من أمره يعود إلى مديح التوالد والتكاثر من أجل التعويض النفسي عن غياب أسباب التقدم والنهضة في عصر لم يعد فيه التفوق بالكثرة العددية، بل بالعقل والعلم، والتنظيم المحكم، والتدبير العقلاني والواقعي لشؤون المجتمع. خلال أيام سابقة تعرف المغاربة على حالات شاذة لبعض المواطنين المغاربة من التيار الديني المتشدّد، حيث صرح أحدهم بافتخار أثار دهشة الجميع بأنه متزوج من ثلاث نساء وأن له 11 بنتا، كما تعرفوا عبر الصحافة على شخص وزّع بتهور واضح تهم التكفير يمينا ويسارا على الأحياء والأموات، واعتبر نساء حزب سياسي "بغايا" لأنهن يطالبن بحقوقهن، وتبين أنه بدوره متزوج من ثلاث نساء و له 21 من الأبناء والبنات (!!). كان الناس مغرقين في المشهد المثير، عندما جاء تبرير هذه الحالات الشاذة من طرف أحد منظري الفقه المقاصدي من الإسلاميين الذين يضعون قناع الاعتدال، والذي قدم فتوى جواز تكثير النسل والتوالد، دون أن يخبرنا عن كيفية تدبير ذلك في حالة ما إذ قرر جميع المغاربة أن يفعلوا ما فعله المواطنان المذكوران. كانت الدعوة إلى التناكح والتناسل في الإسلام مرتبطة بسياق تطبعه العصبية القبلية التي ترتبط فيها الغلبة بالعدد والكثرة، وجفاف الصحراء وقلة الموارد، إضافة إلى كثرة الأوبئة والغارات والحروب التي كانت تودي بحياة الأفراد مما جعل التناكح والتناسل أمرا حيويا بالنسبة للقبائل من أجل الحفاظ على البقاء والاستمرار. دون أن ننسى فكرة المسلمين في عصر الدعوة الداعية إلى "تكثير سواد الأمة لتظهر على غيرها من الأمم"، ما لم يعد له من موجب اليوم بعد أن انقلبت موازين القوى في العالم وتغيرت أسباب الرقي والتقدم والقوة الحضارية. في عصرنا لم يعد نشر الدين والعقيدة بالعنف والحرب أمرا مقبولا، بل بالتبشير السلمي والحوار الفكري، ولم تعد القبلية أساس المجتمع البشري بل الدولة الحديثة، ولم تعد الغارات بين القبائل أمرا ممكنا بل صار المواطنون يخضعون جميعا لسلطة القانون الذي تشرف عليه الدولة التي تحمي بعضهم من بعض، كما أن التطور المذهل لعلم الطب واكتشاف اللقاحات وأنواع الأدوية وأساليب العلاج أدى إلى تزايد أعداد السكان الذين كانوا ينزلون أحيانا دفعة واحدة إلى النصف أو أقل من ذلك كلما داهمهم الطاعون الأسود أو الكوليرا أو الجذري. وقد أدى تزايد ساكنة العالم خلال القرن العشرين وارتفاع معدل الحياة بفضل الاكتشافات الطبية، إلى إقرار العديد من الدول المتقدمة والقوية والمزدهرة اقتصاديا، والتي تتوفر على كل وسائل الرفاهية والعيش الرغيد، إقرار تدابير احتياطية من أجل الحيلولة دون التكاثر الذي يزيد عن الحدّ المعقول، كما أن قيم الحياة العصرية ووضعية العائلة النووية وتزايد قيمة الفرد واحترام الطفولة أدت إلى التحكم في نسبة الخصوبة في عدد كبير من الدول. أما الدول الإسلامية فقد عرفت تطورا نحو المجتمع الاستهلاكي الحديث، وأقبلت على اقتناء التكنولوجيات العصرية، لكنها ظلت تتخبط على المستوى القيمي في أوضاع ما قبل الدولة الحديثة، كما ظلت مرتبكة بين المضي نحو بناء المجتمع الحداثي وبين تكريس ممارسات المجتمع القديم، يدلّ على ذلك الطريقة التي تقدم بها الأسرة في المقرر الدراسي المغربي ، حيث يرتبك الكتاب المدرسي بين الدعوة إلى "التناكح والتناسل" وبين فكرة "تنظيم الأسرة"، إذ يعرضهما معا في نفس الدرس دون أن يحسم في توجيه الطفل إلى ما فيه مصلحة المجتمع في الوقت الراهن. يفسر هذا الأسباب التي جعلت الشيخ المقاصدي يدعو إلى التكاثر والتوالد بدون حدّ ولا قيد أو شرط، وهو يعتقد أن في ذلك قوة الإسلام واستمراره، دون أن ينتبه إلى أنه لن تكون ثمة قيمة للدين وإن تناكح الناس وتكاثروا، إذا لم تكن لتلك الجماهير الغفيرة من المسلمين كرامة وقيمة، في معاشهم المادي كما في حقوقهم الأساسية، لأن الفقر والاستبداد لا يشيعان إلا الظلم والمذلة. فات الشيخ أن التكاثر والتناسل بحاجة إلى ضمان الموارد الضرورية للحياة والسكن اللائق والعيش الكريم، ولست أدري ما هي الحلول التي أعدها للأجيال التي ستتوالد وتتناسل بلا حساب. نسي الشيخ بأن التربية أمر دقيق ومسئولية عظيمة تقوم على احترام الطفولة وقيمة الإنسان، وأن التكاثر والتوالد الذي يزيد على الحدّ المعقول يستحيل معهما إعطاء الاهتمام المستحَق لكل واحد من الأبناء. يعرف الشيخ بأن بلده يتخبط في كل أنواع الأزمات التي زادها إخوانه في الحزب تفاقما وتعاظما، ويعرف بأن مشكلة البلد ليست في نقص خصوبة الرجال والنساء، بل في البطالة وارتفاع الأسعار والتهميش وسوء التدبير، كما يعرف بأنه ما دامت الأمية منتشرة والجهل متفشيا، فلا خوف على خصوبة بلدان المسلمين، سيتكاثرون بالتأكيد، ومن المرجّح أن أحوالهم ستزداد سوءا في غياب خطط واقعية ومحكمة للتنمية والنهوض وتدبير الموارد الحيوية.