يتابع الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي تجربته في الكتابة والنضال بعد خمسة عقود قضاها في العمل الثقافي والسياسي، ظل خلالها التمرد على الاستبداد لتحقيق حرية الإنسان وكرامته هاجسه الأعمق، وهو منذ عمله المسرحي في أواسط الستينيات مروراً بتجربته الصحفية (تأسيس مجلة أنفاس) والسياسية (منظمة "إلى الأمام" اليسارية) التي أودت به إلى اعتقال دام ثماني سنوات (1972-1980) وصولاً إلى تجربته مع الشعر والرواية والترجمة ظل ذلك المناضل الذي يرى أن التعددية السياسية والنهضة الثقافية أمران متلازمان لا يتحقق أحدهما إلا بتحقق الآخر. الشاعر المقيم في باريس منذ ثلاثين عاماً والحائز على جائزة (غونكور) الشعرية الفرنسية عام 2009، يشارك في معرض بيروت للكتاب بديوانه الجديد "منطقة الاضطرابات" (صدر حديثاً عن دار "نلسن" بعد أن نقله الشاعر عيسى مخلوف إلى العربية). حول الديوان، وحول تجربته مع المنفى والسجن، والوضع العربي الراهن يدور هذا الحوار الذي أجرته صحيفة "العرب" اللندنية مع عبد اللطيف اللعبي وتعيده نشره هسبريس: -عشتَ تجربة المنفى منذ الثمانينات بعد سنوات طويلة من النضال، هذه التجربة تتكرر اليوم بشكل واسع مع أعداد كبيرة من أبناء المجتمعات العربية كما تتكرر محاولات النهضة، ما الذي قدمه لك المنفى؟ وهل ترى أننا اليوم ندور في ذات الحلقة أم أنها بالفعل مرحلة جديدة؟ تجربتي للمنفى عرفت مراحل عدة، لكل واحدة منها مواصفاتها الخاصة. الأولى طبعا كانت غاية في القسوة لأن اغترابي في منتصف الثمانينات كان اضطراريا وليس اختيارا. لقد صورت تلك المرحلة بدقة في العديد من كتاباتي، ومنها على الخصوص روايتي "تجاعيد الأسد". بعدها، أصبح المنفى بالنسبة لي حالة اعتيادية إلى أن اكتشفت أنه ليس شراً بالمطلق، بل أن له مزاياه. فالابتعاد يفرض عليك أن تتحقق من صدق العلاقة التي تربطك بوطنك وشعبك، ومن صدق التزامك أم لا بقضاياهما. زد على ذلك أنه يسمح بتوسيع هائل لآفاق المعرفة والمخيلة ويتيح مجالاً أرحبا للمقارنة والإلهام. وهكذا يصبح المنفى نافذة على الكونية. ونحن نطل من تلك النافذة، نكتشف مثلا أن نضالاتنا من أجل الديمقراطية في بلداننا الأصلية، رغم ما تحقق في بداية الربيع العربي، ما زالت محدودة السقف، كما أن تطلعنا إلى الحريات لم يصل بعد إلى المطالبة بالحد الأقصى. -لكن التجربة المصرية على سبيل المثال طالبت منذ بدايتها بالحد الأقصى: زوال الديكتاتور، ولم يجْدِ تغيير الدستور أو الحكومة في إرضاء المنتفضين، وكذلك الأمر في سوريا منذ أن سقط أول ضحية في درعا. في هذه الحالات، وفي غيرها، ارتكزت المطالب على إسقاط الديكتاتور واستعادة الحرية والكرامة، دون أي تصور واضح المعالم للمشروع الديمقراطي والمجتمعي والحضاري البديل. طبعا كان من الصعب أن يتم ذلك في غياب قوى مواطنة منظمة، حاملة لمشروع من هذا النوع، وهذا هو الذي أتاح للقوى المحافظة أن تجني بالمجان ثمار الربيع وتنجز ثورتها المضادة. -هذا المشروع الحضاري لم يكن مطروحاً في كثير من الثورات عبر التاريخ، لكنه مع ذلك تحقق ضمن السياق الطبيعي لتلك الثورات، (ثورة الفلاحين والثورة الفرنسية على سبيل المثال). الثورة الفرنسية لم تنبع من العدم. لقد مهد لها العديد من الفلاسفة والعلماء والمبدعين قبل اندلاعها بعقود. ولذلك سمي القرن الثامن عشر في فرنسا بقرن الأنوار. في العالم العربي أيضا، لم ينبع الربيع من العدم. ففي العقود التي سبقته تجدد الفكر والتحقت الفنون والآداب بقاطرة الحداثة وتطورت المجتمعات في طرق عيشها وسلوكها وحاجياتها ومطامحها. إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهيه السفن. من كان بمقدوره أن يتنبأ بالثورة الخُمينية وبعدها بالمد الأصولي وببروز ما سمي بالإسلام السياسي؟ إنها حيلة من حيل التاريخ غيرت المجرى الذي كان من المنطقي والمفروض أن يتابع سيره نحو تحديث مجتمعاتنا وانفتاحها ونموها وإرسائها لقواعد جديدة للعيش الآمن والمتناغم بين مختلف مكوناتها العقائدية والإثنية والثقافية. ومع كل ذلك، أعتقد أن الربيع العربي لم يقل كلمته الأخيرة. إنه فصل عرف محطتين إلى حد الآن، لكنه ينبئ بمحطات أخرى قادمة ولا ريب. ولتكون تلك المحطات المقبلة حاملة للتغيير المنشود علينا أن نهيئ التربة دون تأخير. لذلك، ومن وجهة نظري، علينا أن نواجه بحزم تحديين. الأول، سبق لي أن أشرت إليه، يكمن في لم شتات المعسكر الديمقراطي الحداثي وبلورة مشروعه المجتمعي الحضاري. والثاني يكمن في مد الجسور وفتح الحوار ما بين هذا المكون المدني والمكون ذي المرجعية الدينية من أجل إرساء أسس جديدة للتعايش وقبول التعددية والاختلاف، ولبناء مجتمع متحضر يضمن للجميع كافة الحقوق والحريات. المسألة هي كيف نخرج من سيناريو الصِّدام ونفق العداء والتحجر العقائدي والايديلوجي؟ كيف نقيم عملية تركيب خصبة ما بين فكر الأنوار العلماني وفكر الأنوار الإسلامي؟ ولكي ننجز هذا السيناريو الحامل للأمل، يلزمنا اكتساب ثقافة الحوار والتحلي بفضيلة التسامح والقيام بعمل فكري ضخم. ونحن نودع نيلسون مانديلا، علينا أن نستخلص أهم درس لقنه ذلك الرجل المتواضع والشهم للبشرية جمعاء: لقد استطاع وسط أحلك الظروف أن يتصور حلا متحضرا وصائبا للصراع الذي كاد أن يفتك بمستقبل وطنه وشعبه. وهكذا انتصر للتعايش والتسامح وسمو القيم الإنسانية ضدا على نظام التمييز العنصري الهمجي وما يرافقه من تطرف وعداء قاتل. -ثمة حديث خفي عن الموت، يقابله تفاؤل قوي يظهر في اللغة الشعرية لديوان (منطقة الاضطرابات)، هذا التفاؤل يبدو لمن يلتقيك سلوكاً شخصياً أيضاً، هل هو ناتج عن رضىً إبداعي ونضالي أم أنه نوع من التحدي أمام مآسي العالم؟ أذكرك هنا بمقولة الفيلسوف والمناضل الإيطالي غرامشي : "يجب مقاومة تشاؤم العقل بتفاؤل الإرادة". أعتقد أن التشاؤم عديم الجدوى. فهو يحكم عليك بشلل العقل والإرادة. مقاومتي له نابعة من تشبثي بمعجزة الحياة وانبهاري بمغامرة العقل البشري المذهلة. تلك المغامرة التي نقلت الإنسان في ظرف زمني وجيز من الهمجية إلى الذكاء الهائل. ثم إن تجربة الحياة على كوكبنا فريدة، يتيمة في الكون. لذلك فإنني أعيشها بانبهار دائم على الرغم من كل البشاعات التي ارتكبتها البشرية. أمام كل هذا يصبح الموت شيئاً تافهاً لا سيما حين أتأمل عجائب الجسم الإنساني, لقد وصلت بعد اطلاعي على العلوم التطبيقية إلى أن ما يحدث في الكون يحدث بتفاصيله داخل أجسادنا. اختبرت هذا الأمر بعمق أثناء حوار طويل أجريته مع جسدي جراء تجربة المرض في السنوات الأخيرة. وفي الأخير أريد أن أنبه إلى ملَكة مذهلة لم نعد ننتبه إليها في واقعنا العربي: ملَكة الحب. هي مذهلة لأنها الطريقة المُثلى لاكتشاف ذاتك. ما من اكتشاف للذات، ومن ثم لأشباهنا البشر دون تلك العلاقة الخاصة التي تربطك برفيقة الدرب والعمر. الحياة فرصة ثمينة ، وهي صدفة لا غير. إذا لم أنتزع منها ما هو أجمل فلماذا أعيش؟ هذا ما أقوله في أحلك الظروف، وهو ما حصل خلال سنوات السجن، فقد عشت رغم الفراق، بل ضدا عليه، أجمل علاقة حب مع رفيقة دربي: جوسلين. -ما الذي اكتشفته مع جوسلين بعد نصف قرن من هذه العلاقة التي سبق أن وصفتها بأنها (عمل فني بُني بالمخاوف والتساؤلات والتمزقات والفراغات والتحولات والإشراقات)؟ المرأة جنس بشري متفوق على الرجل. قدرة النساء على الصبر والتحمل لا تضاهيها قدرة الرجال. قلت لجوسلين في إحدى الحوارات: لا أعرف كيف كنتُ سأتصرف لو كنتِ أنتِ المعتقلة، ربما طويت الصفحة، وتخليتُ. إن تجربة النساء القاسية عبر التاريخ هي التي أعطتها تلك القدرة على التحمل والتضحية. لاحظ أيضا أن النساء لم يمارسنَ السلطوية والتقتيل كما مارسها الرجال عبر التاريخ. وهذا فضلها عليهم وعلى البشرية جمعاء.