هل يمكن اصلاح منظومة تعليمية تعرضت للتدهور لفترة طويلة؟ وهل هناك محاولات جادة مبنية على نظرة استراتيجية بعيدة المدى؟ قد يكون الجواب المتسرع بنعم أو لا مجانبا للصواب، لأن عملية الإصلاح معقدة وتتطلب مقاربة ميدانية تبحث في مكامن النجاح والخلل وفي المتدخلين في العملية ومدى مقاومتهم أو استعدادهم لتنزيل الإصلاح على أرض الواقع. أحيل في البداية على خلاصات عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو حول علاقة المجتمع بالتعليم، حيث تؤكد نظريته السوسيولوجية على دور مؤسسات التعليم في إعادة انتاج التفاوت الاجتماعي. لم تكن هذه الخلاصة أكثر صدقا وواقعية في وصفها لواقع التعليم الجامعي في المغرب مثل اليوم وخصوصا مع انتشار الجامعات الخاصة التي تحقق لمنتسبيها النجاح الأكاديمي وتعزز رأسمالهم الثقافي ومكانتهم الاجتماعية، في حين أن الجامعات العمومية، خصوصا ذات الولوج المفتوح، تبقى ملجأ لعموم الطلبة حيث الاكتظاظ والهدر وضعف الإمكانات والتكوين ويبقى فشل أغلب الطلاب في تحقيق الرأسمال الثقافي المطلوب دليلا، في الخطاب الرسمي، ليس على فشل المنظومة بل فشلهم كأفراد منتمين إلى طبقات غير محظوظة. هكذا يصبح الفشل قدرا طبقيا وليس نتيجة لإصلاحات وسياسات فاشلة. نبه بازل برنشتاين، عالم الاجتماع البريطاني، إلى دور التعليم في إعادة إنتاج التفاوت الاجتماعي كذلك، لكن من منظور لغوي، حيث يميل النظام التعليمي، حسب رأيه، إلى تفضيل اللغة الأكثر تعقيدا وتجريدا والتي تستخدمها الطبقات الوسطى وما يتبع ذلك من تفوق في اللغات والتقنيات، الأمر الذي يجعل الطلبة من طبقات دنيا في وضع غير متكافئ. تساهم الجامعة في المغرب في توزيع المعرفة والسلطة بطريقة غير متكافئة، ولعل آخر إصلاح للتعليم العالي يشهد على تأثير الفوارق الاجتماعية على التعليم وإعادة إنتاجها من طرف هذا الأخير. تم تنزيل نسخة جديدة من الإصلاح الجامعي (إسريESRI)، الميثاق الوطني لتسريع تحول منظومة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار بداية السنة الجامعية 2023-2024، ويتضمن ضمن محاور أخرى، مهمة دمج المهارات الرقمية واللغوية ومهارات الحياة في المنظومة البيداغوجية الجديدة. وفرت الوزارة بعض المناصب المالية الخاصة بتوظيف أساتذة محاضرين وتمويل شراء حواسيب للكليات، لكنها لم توفر مهندسين وتقنيين كما وعدت بذلك لمؤازرة الأساتذة في تنزيل هذا الإصلاح. تنزيل الشق المتعلق باللغات الأجنبية ومهارات القوة أبان عن مشاكل قيمية وهيكلية لها علاقة بالسياق العام للسياسات التعليمية بالمغرب. بالنسبة للغات، تعاقدت الوزارة مع منصة أمريكية لتعليم اللغات بمبالغ كبيرة، روزيطا ستون، التي تتعامل مع الطالب كزبون توفر له منتوجا موحدا ومن المفروض أنه، أي الطالب، يتوفر على وسائل التواصل مع المنصة والاشتغال عليها. نظرا لكثرة المشاكل التقنية المتعلقة بتفعيل الحسابات على منصة روزيطا واستعمالها للتعلم، أصبح همٌ أغلب الطلبة هو حل المشاكل التقنية التي لها علاقة بالمعرفة الرقمية للطلبة، و بعدم تطابق الهواتف مع المنصة، و عدم توفر الطلبة على رصيد بهواتفهم للاشتغال بالمنصة عن بعد، و عدم احتساب المنصة لساعات الاشتغال على المنصة (ضرورة انجاز 30 ساعة في اللغتين الفرنسية والإنجليزية)، هذه الوضعية الأخيرة دفعت بعض الطلبة، لعدم توصلهم لأي تفسير أو تأويل لهذه الوضعية، إلى استعمال برمجيات بمقابل للرفع من عدد الساعات المسجلة في حسابهم في "روزيطا"، الأمر الذي أفسد العملية برمتها. كما أن مئات الطلبة، رغم توفرهم على حساب "بروزيطا"، لا يتم استدعاؤهم لاجتياز الامتحان النهائي رغم توفرهم على شرط 30 ساعة، لأن أسماءهم غير متضمنة في تقارير المنصة. أين هي عملية التعلم؟ ضاع انتباه وجهد الطلبة في حل مشاكل تقنية لم يجدوا من يساعدهم على حلها، وفي آخر المطاف يُحمل الطالب والأستاذ مسؤولية فشل جزء من إصلاح المنظومة البيداغوجية، رغم أن مصدر الفشل هو مؤسساتي حيث لم توفر المؤسسة الوسائل التقنية والموارد البشرية اللازمة لإتمام العملية في أحسن الظروف كما يتم فعلا في مؤسسات التعليم العالي الخاصة التي لا تعرف مشاكل من هذا النوع. الوجه الثاني للإصلاح البيداغوجي المتعلق بمهارات القوة هو أكثر قبحا من حيث المحتوى ومن حيث التدبير التقني ومن حيث شروط التقييم. جل وحدات مهارات القوة لا تستجيب لشروط التعليم الجامعي، مجرد وحدات لتلقين معلومات يمكن الحصول عليها باستعمال الإنترنت والذكاء الاصطناعي. هل يحتاج طالب بكلية العلوم مثلا أن يعرف فنون الطبخ والفنون الشعبية كأغاني "العيطة"، أو أن يعرف تواريخ المعارك؟ من الأكيد أن هناك خللا في التصور، تصور للثقافة كفلكلور، كأرقام وتواريخ، كأسماء ومسميات، كلٌ متشظ لا يستطيع دماغ الطالب جمعه إلا لحظات ثم يهوي الكل إلى فج عميق من النسيان. رغم ضعف المضمون الذي تم تجميعه بمقابل، ورغم دهشة الطالب أمام تدني مستوى المعرفة الملقنة بالجامعة المغربية، يعيش الطالب، تحت ضغط الضرورة، في وهم التعلم على منصة أخرى اسمها "مودل"، والتي تقدم ما أنتجه الإصلاح، من فيديوهات ودروس توجد محتويات أحسن منها بفضل نقرة في عالم الإنترنت. عندما حلت لحظة المراقبة المستمرة، اجتاز الطالب امتحانا في المنزل بمساعدة الذكاء الاصطناعي ووسطاء بمقابل أو دون مقابل، وحصل أغلب الطلاب على 20، 19 أو 18/20، تحتسب بنسبة 50 بالمائة من النقطة النهائية، في مؤسسات التخصص العلمي، حيث قد تمنح شهادة لطالب نجح أكثر في وحدات بعيدة عن تخصصه العلمي، بفضل نقط قد تكون غير مستحقة. هكذا يتم دعم التكوين العلمي. ثم يأتي الامتحان النهائي الحضوري على المنصة، فيجتاز الطلبة الامتحان في قاعات الامتحان أو بالمنزل [!]، بمساعدة وسطاء أو برمجيات الذكاء الاصطناعي، وتتكرر نفس المهزلة. ما يشهد عليه هذا التنزيل للإصلاح البيداغوجي هو عدم تحقق الأهداف التي كان مخططا لها، لم يتعلم الطالب اللغة بطريقة بيداغوجية جديدة ومتطورة، بل كان همه حل المشاكل التقنية، ومشاكل الاتصال والانفصال، الأمر الذي تركه هائما في عالم من التيه والتساؤل لا يفارق فكره، ماذا يقع حولنا؟ من المسؤول؟ أين الإصلاح؟ ثم يعيد الأسئلة نفسها عندما يتذكر امتحان مهارات القوة، ويبتسم في قرارة نفسه، ويشكر الذكاء الاصطناعي وكرم الإنترنت. من هو المسؤول ومن هو الضحية؟ أرجو أن يجيب المسؤولون عن هذا الإصلاح، عن هذه الأسئلة حتى يقتنع العطار أن ما أفسده الدهر يصعب إصلاحه بمساحيق سطحية. تربة الإصلاح أعمق من ذلك وتحتاج إلى عطار من نوع خاص، يستمع لنبضات الثقافة المحلية ومتطلبات الانخراط الجدي في الحداثة.