طبعت الساحة الإعلامية المغربية أخيرا بأحداث كان محورها الملك..وصحته تحديدا.وليست هذه المرة الأولى التي يصنع فيها شخص الملك وموضوع الملكية الحدث، مادام محمد السادس رئيس الدولة ومحور السياسة والمسؤول الأعلى على رأس هرم السلطة في البلاد. "" معروف في أبجديات الإعلام أن تناول الملكية والدين والجنس والقضايا الغامضة يسيل لها لعاب الصحافيين وتثير فضول القراء وتزيد في شهية اقتناء الصحف.المقولة المعروفة هي "صاحبة الجلالة صرخت: يا إلهي الأميرة حبلت، فمن فعلها؟"، جملة تختصر، بشكل يذكرنا بصياغات النحاة العرب للقواعد،موضوعات الصحافة المثيرة. وبالمناسبة فقد وصلتني رسائل عديدة على خلفية رسالتي إلى "جلالة" الزعيم معمر القذافي، وهي رسائل إلكترونية تختلف باختلاف أمزجة ونوايا مرسليها بين شاكر لي ومنتقد ومصحح ومستفز وشاتم..إلى داع لي كي أكتب عن ملك المغرب "إن كانت لدي الشجاعة الكافية كما أريد أن أبدو أما القراء والجمهور". والذي استوقفني فعلا في مثل هذه الرسائل، ومن خلالها عقليات كثير من الناس، كيف يربطون بين الشجاعة الصحافية والكتابة عن الملك؟ وقبل أي تفصيل أقول إن الكتابة عن الملوك ليست بالضرورة شجاعة بل قد تكون عين الجبن في كثير من السياقات: المداحون المجانيون للملوك والسلاطين، بمناسبة وبغيرها،جوقة طفيليين منتفعين، والمادحون "غير المجانيين" من أصحاب "اللعب مع الكبار" ومن يعرفون من أين ومتى تؤكل كتف الأرصدة مضاربون كبار في سوق النخاسة الإعلامية. لكن السؤال الملحاح: هل كل من يكتب عن ملك أو زعيم بشكل إيجابي هو بالضرورة متملق؟ في تقديري الجواب ليس دائما نعم. وهل من يكتب بشكل سلبي عن أي ملك هل يكون حتما على صواب ومحقا في ما يكتب؟ قناعتي:إنه ليس محقا على طول. بمعنى، أن مهمة الصحافي هي البحث عن الخبر اليقين وتحليل الحدث والقرارات وطرح التساؤلات و تنوير الرأي العام بشكل موضوعي وواع بتعقيدات الوضع وملابسات الأحداث. ذلك أن الصحافي في بلداننا الزاحفة نحو الديمقراطية يجب أن يعرف ماذا يقول وكيف يقول أما متى يقول فهي متروكة لجرأة الأشخاص والمؤسسات وحساباتها وحتى مصالحها، والمصالح ليست كلها حراما وليست جميعها تتماشى مع رسالة الصحافة: قد تجد صحافيا ممتازا في صحيفة مقيدة بالحسابات تخنقه وتذهب بوهجه حينما يأتي بالخبر الجيد لكن في الوقت "الحساباتي" الغلط بالنسبة للمؤسسة التي يشتغل لصالحها ويقتات منها. هذا واقع. نعود للموضوع.أي الكتابة عن السلطة.طبيعة العلاقات التاريخية بين الصحافة كرسالة والحكم من جهة، والسلطة والإعلام المعارض الحزبي من جهة ثانية، هي علاقات مد وجزر، صعود وهبوط. وعمق الإشكال هنا يتلخص في أن طبيعة السلطة، أية سلطة، هي بالضرورة محافظة متكتمة، والإعلام بطبعه باحث عن الكشف والإعلان والفضح مما يثير التنافر والتضارب في الأدوار بل وحتى العداء، عداء لم يجد بعد في بلد كالمغرب طريقا نحو الإنهاء أو الفصل أو التوافق على تحديد الأدوار، بما يضمن للصحافة أن تقوم بدورها في حدود نص قانوني واضح يشرح ويحدد ويحمي الممارس من شطط التأويل والسلطة التنفيذية. لكن التخلف ليس في كيان السلطة وحدها بل إن التخلف ملة واحدة في المغرب: ثمة رجال إعلام وبمجرد ما يصير لهم إسم في صحيفة ما يحسبون أنفسهم فوق كل محاسبة أو مواطنين من درجة أعلى لا يكادون يخضعون لقانون ويسمحون لأنفسهم بالخوض في كل شيء بما في ذلك أعراض الناس وخصوصياتهم التي يطالب الصحافيون أنفسهم صباح مساء السلطة بحمايتها، والمفارقة أن بعضهم يجلدون كرامات الناس بلا وازع أخلاقي، لا يترددون، هم أنفسهم، باللجوء إلى القضاء، المريض أصلا في المغرب، لاسترجاع حقوقهم ورد الاعتبار لأنفسهم في حال كتب أو أذيع خبر عنهم يرون فيه إهدارا لكرامتهم. أعتقد أن الصحافي مهما كان قدره، إن لم يتحل بتربية حسنة، وروح إنصاف وإنسانية متجذرة في ميولاته وممارساته، لن يكون إلا ماكينة تدور مع الدائرين ووجها يلبس كل الأقنعة باسم المهنة.لست أعمم هنا بل ثمة قلة قليلة من الشرفاء أصحاب الرسالة لكنهم للأسف باتوا، في زممنا الأغبر هذا، أنذر من قرني دجاج.لست، مرة أخرى، هادفا لجلد الذات بل إني أنطلق من قول الحقيقة ولو كانت مرة وعلى نفسي وزملائي. قد يحاجج البعض بالقول: الخبر خبر ولا بد من نشره.أنا أتفق بسرعة من حيث المبدأ، لكن ما العمل حين يتعلق الأمر بخبر خطير تكون له تبعاته على أمن البلاد كأن يتعلق بصحة الملك أو أسرار عسكرية أو استراتيجية: هل أنساق مع الخبر والبحث عن السبق المشروع أم أقدر مصلحة الوطن ؟ بسرعة أيضا أقول إن الوطن فوق كل اعتبار ومصلحته فوق مصلحي في أي سبق، فلا خير في سبق يفتح لي باب المجد وعلى الوطن باب جهنم.ألسنا نطالب دائما بمقاولة مواطنة وقضاء مواطن وأمن مواطن..وبيئة مواطنة وبشر مواطن وحيوان مواطن..وبخوش مواطن..ما العيب إذن في صحافي مواطن؟، أليس الإعلامي بشرا يعيش في وطن بهوية وثقافة معينة.وبتوضيح أكثر: لو عثرت على خبر يقفز بي إلى أعلى عليين ويهوي ببلادي إلى أسفل سافلين لأعرضت عن نشره ليس خوفا من أحد ولا على نفسي حتى، بل لأن شرع الله حيثما ووجدت مصلحة العباد، والعباد هم المواطنون، وليس هناك وطن بلا مواطنين. سميت الكتابة عن الملك مأزقا لأنها فعلا مأزق. ليس دائما بالمعنى القانوني.سأشرح: الكتابة عن الملك، أي ملك عربي، ليست لها خيارات كثيرة فأنت إما مادح مفضوح أو طامع قبيح أو ضارب دف في البلاط من أجل عطايا أو موضوعي نسبي أو موضوعي منصف.أفضل شخصيا الخيار الأخير.لكن حتى لو كنت موضوعيا لن تسلم من النقد لأن تربية معينة استحكمت في ضمير ولا وعي النخب مؤداها: لا تقل كلمة إنصاف في أي حاكم حتى لو أصاب. وهذه لعمري طامة. مثلا،"حتى لو قام ملك المغرب بأي عمل يعود بالخير على العباد والبلاد فالواجب، حسب "النخبة" عدم الإشادة، لأن الملك رمز السلطة وبالتالي من الأخلاق المهنية والواجب النضالي والإيديولوجي تفادي الإشادة وإلا كنت، أيها الصحافي،بوقا".انتهت الموعظة. تعالوا نناقش بمنطق: لو كنت أنت أيها الواعظ مسؤولا عن قطاع ما وأحسنت ماذا تنتظر من الصحافة؟ طبعا الإنصاف. وما هو إحساسك لو ضرب عليك الإعلام طوقا من الصمت واللامبالاة حينما تحقق إنجازا كبيرا؟ طبعا ستشعر بالغبن والغيظ. أليس الحكام بشرا ومن حقهم أن يشعروا بما تشعر به أنت وأنا؟ ثم أليس تشجيع الملك على المضي في طريق إيجابي خير من تجاهل هذا المسار.ألم نتفق أن نكون صحافة مواطنة؟ لكن هل يعني هذا أننا محكوم علينا كصحافيين بأن نتعامل إيجابيا فقط مع السلطة ونسكت عن أخطائها؟ طبعا لا وإلا كنا فعلا أبواق صدئة. الصحافة في المغرب،سواء كما هي في تصوري، أو إن كانت ناقدة حادة للوضع فهي في صف الملك أولا وأخيرا.المعادلة أسهل مما يتصور الكثيرون.كيف؟ إن شجعنا الملك على المضي في سبيل التنمية والديمقراطية فنحن في صفه وفي صف الوطن، وإن كشفنا له الحقيقة كما هي في مرارتها واعوجاحها، كنا في صفه أيضا، وساعدناه على التصحيح وأدينا الرسالة وأقمنا الحجة على الواقع.هنا تنتهي مهمتنا وتبدأ مسؤولية الساسة ليستبقوا الخيرات أو ليتحملوا وزر التقصير. لكن المعضلة في المغرب أن صحافة العقدين الأخيرين وجدت نفسها تقوم بدور غير طبيعي وهو دور المعارضة نظرا للفراغ السياسي الفظيع في صف المعارضة لأسباب ليس هذا محل توضيحها. هناك أيضا حرج غير ضروري حينما يكون الدفاع عن الملك من صميم الدفاع عن الوطن. وتحضرني هنا مقولة للأستاذ محمد الساسي "إن من يحب ملكه عليه أن يقول له الحقيقة كاملة". ودعنا نجرب التهجم على ملك إسبانيا أو ملكة بريطانيا أو ملك بلجيكا وسترون كيف ستنتفض الآلة الإعلامية الغربية وكيف سيضربون لنا كل أنواع الدفوف لأننا مسسنا رموزهم الوطنية..أليس الغرب نموذج "الحداثيين" في الديمقراطية والحرية. اسألوا الإعلام البريطاني لماذا وكيف سكت عن صفقة سلاح العصور كلها مع السعودية لأن كشفها سيعرض البلاد لأضرار اقتصادية وخيمة.هل نحن المغاربة أكثر ديمقراطية من انجلترا؟ أجيبوني عفا الله عنا وعنكم. يقيني أن معركتنا مع أجل الديمقراطية هي معركة مصيرية ومعركة داخلية ضد التخلف والجهل والظلم لكن ليس بأي أسلوب وليس عن طريق حشر أنوف ومؤخرات الأجنبي في شؤوننا، ورحم الله من صارعوا الحسن الثاني ودخلوا السجون وخاصمهم ثم صالحهم لكنهم ظلوا وطنيين ولم يطلبوا لجوءا، بل لجأوا لله والصبر في سبيل قناعاتهم.تلك الهامات الكبيرة في تاريخنا الحديث لم يقولوا بلا مغربية الصحراء ولا كانوا انقلابيين مثل أوفقير والدليمي بل مغاربة أحرارا وصناعة مغربية خالصة تعرف أن بلادي وإن جارت علي عزيزة. في بلدان أروبية التقيت كثيرا من المهتمين بالشأن المغربي وكنت أتعمد استمزاجهم لمعرفة رأيهم في كثير من أمورنا كما يرونها. قليل منهم من يقارب الحقيقة وكثيرا منهم من لا يعرف عنا إلا مقدار ما يصله مشوها من قنوات الغرب، وحتى من يكون إيجابي الموقف تجاه الملك فإنه لا يعرف أكثر مما يصله من خطاب إعلامي رسمي مغربي غير ناضج بالمرة. والمفارقة أن الدولة التي تصرف الملايير على إعلام كسيح ولها حساسية مفرطة تجاه الإعلام الوطني في كثير من القضايا، ليست مستعدة لفهم آليات اشتغال الإعلام الحديث.فالدولة إما راغبة في طمس حقائق فشلها وأخطائها أو لديها شيء يستحق المعرفة خارج الحدود ولا تعرف كيف تسوقه. سأكون سعيدا بأن أرى يوما صحافة مغربية مستقلة مواطنة قوية، وإعلاما رسميا خارج الحدود يعرف دوره ويعرف قضيته بحيث لا يقدم المغرب كجنة فوق الأرض بشكل فج ولا يتوانى عن كشف المغالطات حول البلاد.قطر أنشأت قناة الجزيرة بالإنجليزية لتخاطب الغرب بلغته وكانت محقة، السعودية صرفت الملايير من أجل إعلام وارد من لندن لكنها فشلت في تسويق صورة معينة في بلادها والوطن العربي، فما بالكم بالخارج.المغرب يصرف الملايير والميزانيات المخيفة من أجل قنوات "لا من سمع ولا من رأى"، وبعد ذلك يريدون أن يقنعوا جمهور الغرب أننا بلد يمتاز بكثير صفات حسنة جغرافيا وثقافيا في العالم العربي. إن كنا فعلا نحب هذا البلد فليس من الصواب في شيء أن نبدو للعالم كل رمضان أننا انتهينا من كل شيء ولم يبق أمام الحكومة غير مرمطة الصحافيين في مخافر الشرطة ومعهم صورة المغرب، وإن كنا نحن الصحافيين، فعلا لا قولا، نحب هذا الوطن ونحرص على مصالحه يكفينا أوهاما أن السبق الصحافي والرفع من المبيعات هو غاية الغايات بأية طريقة وبأي أسلوب..وعلى حساب أي كان. أيتها السلطات المغربية عفوا، لسنا مجرمين فكفوا أيديكم عنا إلا بقانون عصري نصيغه معا. أيها الزملاء الأعزاء لست شامتا بما أنتم فيه من محنة ولا راغبا في تكرارها، لكننا، مهلا، لسنا فوق القانون ولسنا معصومين..فقليلا من الحكمة يرحمكم الله. [email protected]