في رحلة إلى مدينة شمال المغرب كان إلى جوارنا فرنسيان يتحدثان عن أحوال البلاد والعباد ونسائم الليل اللطيفة تداعب وجوهنا عبر نوافذ الحافلة التي كانت تقلنا إلى الفندق. "" دقائق قليلة ثم قطع جيراننا الحديث فجأة بمجرد ما دخلت الحافلة إلى المدينة، والسبب تداولاه بوضوح في حديث صريح سمعه كل من كان بالقرب من مقعديهما. لقد تأسف هذان الفرنسيان غاية الأسف كون أسماء المحلات التجارية والإدارية وأسماء الصيدليات وحتى الدكاكين الصغيرة مخطوطة باللغة الإسبانية. هما دون شك في قرارة نفسيهما ما يزالان يعتقدان أن المغرب مستعمرة فرنسية على مستوى اللغة في الحد الأدنى، وشيء غير ذاك غير مقبول. بعيدا عن هذا المشهد، أحد جيراننا جلبته إلى المنزل لإصلاح العطب الذي أصاحب الصحن الهوائي فاجأني بالقول إنه أعاد برمجة القنوات ووضع الفرنسية منها في المقدمة معتقدا أنني سأشكره على فعلته. وبعدما فاتحته في الموضوع أخبرني أن ما فعله شيء عادي يقوم به دائما تحت إلحاح أصحاب بيوتات الطبقة الوسطى وحتى الفقيرة منها، والسبب هو أن الجميع مؤمن بأن لغة ساركوزي هي الجسر إلى الوظيفة والوجاهة في هذا البلد السعيد، ومن ثم يجب قصف الأطفال يوميا بها ليتربوا عليها. الشوارع والمحلات والمقاهي والفنادق والمؤسسات الشعبية والإدارية والبنوك كلها خطت أسماها وعناوينها بالفرنسية، والملصقات واللوحات الإشهارية لا تجد عن هذه اللغة بديلا. داخل الإدارات لا تسمع إلى الفرنسية ومن قبح ونذالة وجهل الكثير من المستخدمين تجدهم لا يجدون عنها بديلا في التخاطب حتى مع شيخ عجوز لم يدخل المدرسة قط، ويبقى الاثنين في حيص بيص حتى يتدخل أحد المحسنين اللغوين لإنقاذ الموقف ويشرح للعجوز ما يريد الشاب المتفذلك إخباره إياه. أيضا عقود عمل الموظفين والأجراء في كل المؤسسات العمومية والخاصة وأغامر فأقول إنها كلها ودون استثناء، محررة بالفرنسية: رب عمل مغربي يوظف مواطنا مغربيا لكن بعقد فرنسي! حتى فواتير الماء والكهرباء لم يسلم منها المواطن البسيط فتأتيه مفرنسة في الغالب وإن اجتهدت بعض الشركات في تأثيث الفاتورة ببعض الجمل العربية المتناثرة هنا وهناك. وبعيدا عن الإدارة، لم يجد العشاق كذلك غير الفرنسية لتحرير رسائلهم إلى حبيباتهم لإظهار أنفسهم ربما في صورة الشباب المثقف المتقن للغة المقدسة في المغرب. كذلك الشابة التي تقدم الأجرة لسائق سيارة الأجرة الصغيرة تغلق الباب وعلى وجهها ابتسامة جميلة تضيعها بكلمة شكر فرنسية هي الأخرى. وقبل هذا وذاك تجد الحكومة غارقة لآذانها في فرنسية عجيبة والمفترض أن تكون هي رمز الحفاظ على رمزية البلاد وما تعنيه العربية لهذا الوطن، وهناك وزراء يتقلب المتنبي وسيبويه والفراهيدي في قبورهم وهم يستمعون للغة التي يتحدثون بها والتي لا تستطيع تمييزها هل هي فرنسية أم عربية أم شيء آخر، في حين لا يعرف الباقي منهم عن لغة ساركوزي بديلا. وفي مجال التعليم وضعت الفرنسية بالشكل الذي يجعل منها لغة البلد الأصلية وتصنع عقول الأطفال على المقاس الذي تريد باريس، ومن يشكك ليطلع على المقررات الدراسية ويقرر بنفسه.. وذاك الفرنسي الذي يأتي إلى بلادنا يأتي وشدقه مفتوح من شدة الفرح يعلم مسبقا أنه يزور بلده، وممثلو السفارات الأجنبية في الرباط يأخذون دروسا في الفرنسية حين يعينون في المغرب والمفترض أن يتعلموا لغة البلد الذي سيشتغلون فيه، أما الفرنسية فيتعلمونها لو عينوا بباريس وليس الرباط. وأحد رموز الإرهاب الفرنسي في البلاد وهو السيد ادريس بنهيمة مسؤول وزارة الطاقة والمعادن الأسبق والموظف السامي ومدير عام الخطوط الملكية المغربية حاليا.. هذا المخلوق العجيب من عباد الفرنسية شكلا ومضمونا، وكل الوظائف التي مر بها تشعرك أنه لا قلب له على مساكين هذا البلد، وكم كانت رائعة وقفة الربابنة وهم يضربون عن العمل بعدما رأوه يقدم هذه الشركة السيادية على طبق من ذهب للأجانب وفي مقدمتهم أهل ساركوزي.. ثم يأتي المتفذلكون ويحاولون إقناعنا بأن الفرنسية هي لغتنا الثانية... طبعا بعد العربية بحسب ادعائهم، والأمثلة التي ضربت هي مجرد غيض من فيض وهي تقرر من هي اللغة الأولى ومن اللغة الثانية أو حتى العاشرة في بلدنا السعيد. الكذبة واضحة ولم تعد تنطلي على أحد برغم القصف الإعلامي والسياسي، والأكيد أن لغة الضاد لم يعد لها أمل سوى في فقراء هذا البلد وضعفائه والعبرة بالنتيجة و"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله" صدق الله العظيم...