الأسباب والانعكاسات "" إن الزواج عبر تاريخ البشرية كان المؤسسة الضامنة لاستمرار المجتمعات الإنسانية تناسلا ووحدة،وفي المجتمعات الإسلامية كانت للزواج أهمية خاصة ، فالإسلام اعتبره رباطا مقدسا بين رجل وامرأة غايته الإحصان والعفاف حفظا للمجتمع من الإنهيار الأخلاقي،وتكثير سواد الأمة وتطاله الأحكام الفقهية الخمسة كل حالة لها حكم،فكان الزواج مؤسسة ترمي لتحقيق المقاصد الشرعية من حفظ التدين والأخلاق والمجتمع أو النظام العام ألا تشوبها أدناس الزنا والفساد الأخلاقي المدمر لبنية المجتمع، وإنجاب ذرية صالحة تسهم في تطور مجتمعها بفكرها وعملها،ذرية تحتضنها أسرة مسلمة وزعت مهام الرعاية والتربية بين أب وأم حريصان على تماسك هذه الأسرة ولم يكونا يفهمان العلاقة بينهما سوى أنها تكاملية لاصراعية. غير أن الإسلام لما اعتبر الزواج مقدسا أحاطه بمجموعة من التشريعات موضوع الفقه التي تجعل لقداسته وغلظ ميثاقه معنى على مستوى التفعيل والواقع،فنظم الحقوق والواجبات الزوجية وفرض احترام هذا الميثاق الغليظ وجعل المؤسسات في ظل الدولة الإسلامية خادمة للأسرة حريصا على دوام حيويتها وفاعليتها.وليس معقولا ولا مفهوما أن يقال في قانون وضعي "حداثي" إن الزواج رباط مقدس غليظ وفي نفس الوقت يترك هذا القانون الثغور مفتوحة ليزني الزوج بأخرى ويحميه القانون في الوقت الذي تشدد في ما أحله الله! بالإضافة إلى الفوضى العارمة في قوانين وضعية أخرى أشد "حداثية" لم تتصور العلاقة الزوجية إلا على أساس الجنس والحرية الجنسية فشرعت قوانين تحمي الشذوذ وفتحت الباب لأنكحة ماشهد التاريخ مثلها،وإذا كانت الحرية الجنسية هي الأساس قد تطالعنا"الحداثة" بقوانين أخرى تبيح للنساء الزواج بالحمير والكلاب والقردة باعتبار أن النساء في الغرب يمارسن الجنس حتى مع الحيوانات!!ولم لا ألم يقل داروين ورفاقه ماركس وإنجلز إن القردة كانوا أجدادنا؟!وفرويد فسر مراحل النمو الإنساني تفسيرا جنسيا؟! فكل حر في ممارسة الجنس مع من شاء،حمارا أو كلبا أو دجاجا أو حتى ذبابا؟!والسلوك الجنسي لدى المرأة الغربية جدير بالدراسة،وخاصة الأمريكية،فأمريكا بمثابة ماخور للذعارة تصدرها مع منتجاتها،وحذر بعض الباحثين الأمريكين أنفسهم من أن هذه الإباحية والممارسات الجنسية الغير المنضبطة ستأتي على الأخضر واليابس في أمريكا،وهي سبب تفاقم الجرائم والإنحراف لدى الشباب،بل حتى المسؤولون الكبار متورطون-كلينتون مثلا وبوش الذي كان سكيرا منحرفا قبل توليه الرئاسة- وبعض الأفلام الأمريكية تخبرنا عن إفشاء أسرار الدولة باستدراج حار من شقراء حسناء لمسؤول مهووس! لكن طه حسين وزمرة المقلدين يدعوننا لاتباع الغرب في حلوه ومره،ولو علموا حقيقة مافي الغرب عيانا دون وساطات أساتذتهم المستشرقين ربما اعتذروا! هناك أمور خطيرة سرت إلينا من هؤلاء البشر "الأحرار" ولا أحد يتحدث عنها للأسف،بل لازال بعضنا يستهلك مقولات ميتة مضحكة، أو يتحدث من برج عال لا معرفة له مطلقا بواقعه،بل حتى معرفة الواقع والمحيط يتسولونه من وساطاتهم الفكرية والإعلامية! إن التشريعات الإسلامية لايمكن فصلها أو عزلها عن باقي الأحكام الفقهية في الأبواب الأخرى سواء كانت في المعاملات المالية والتجارية والإقتصادية أو في الأحكام الجنائية.وآليات الإجتهاد الفقهي تأخذ هذه الحقيقة بعين الإعتبار.ومعنى ذلك أن الأحكام في التشريع الإسلامي كل لا يتجزأ ومعادلة واحدة،إما أن تترك كلها أو يؤخذ بها كلها وإلا فالتجزئ لن يحقق المقاصد الشرعية الكلية والشاملة، فهو منهج واحد لايقبل التبعيض. الزواج الآن في مجتمعاتنا الإسلامية – ومنها المغرب- لم يعد ذلك الرباط المقدس وذلك الميثاق الغليظ كما وصفه الله تعالى، بل صار عقدا مدنيا كباقي العقود من بيع وشراء وكراء!مبنية على حقوق وواجبات متبادلة بين طرفي العقد،ولم يعد هذا الزواج تلك المؤسسة التي تتغيى الحفاظ على المجتمع والدفع به نحو الرقي،صحيح أن مدونة الأسرة استمدت أحكامها من الشرع،لكن ذلك ليس له أي معنى متى فهمنا أن الشريعة الإسلامية معادلة واحدة لا تقبل التجزئ وأنه متى سقط أحد عناصرها بطل مفعولها في تحقيق المقاصد،فالمدونة تفعل بقضاء وضعي لا بقضاء إسلامي! هذا بصرف النظر عن أن بعض أحكامها- أي المدونة – كان تقريرها بضغط من جهات معينة فبحث لها عن تكييف شرعي مخالف لمذهب البلاد!هذا فضلا عن اللجنة الغير المتجانسة التي وكل لها هم صياغة موادها! لكن تبقى المدونة اجتهادا كان ليكون في صالح المجتمع متى صلح القضاء ومحيت الطبقية الرأسمالية التي تجعل الهوة بين قلة من المغاربة وأغلبيتهم سحيقة،أما في ظل الظروف الراهنة فتبقى المدونة أحكاما نظرية محصورة بين دفتي كتاب تحتاج لتفعيل جدي. وعلى المستوى النفسي فإن ثقافة العهر والتفحش والتعري التي تنشرها جهات معينة تحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وانحسار الدعوة لتعاليم الإسلام تؤثر سلبا على تماسك الزواج -المدني- ولا أدل على هذا من قضايا الخيانة المتصاعدة التي تطالعنا بها المحاكم من الزوج والزوجة على حد سواء ، ونضيف لهذا الفردانية والتمركز حول الذات وخطاب الحركة النسوية أو حركة التمركز حول الأنثى في المساواة مع الرجل في كل شئ بما في ذلك الفجور! ( إقرأ : الأسرة في ظل الحداثة المادية والحركة النسوية ) وأوجد صراع وهمي بين الرجل والمرأة يوظف فيه الأبناء في حرب طاحنة لا تأخذ شيئا بعين الإعتبار بما في ذلك مستقبل الأبناء وتماسك الأسرة نواة المجتمع! الفرد المغربي -عموما- لم يعد يفكر إلا في نفسه حتى داخل أسرته ولم يعد الوطن محط الإهتمام نتيجة لغياب الحقوق التي تتأسس عليها المواطنة،ومتى هضمت حقوق الناس فلن يتمنوا سوى هجر أوطانهم! لقد ساهمت المسيحية برهبانيتها المبتدعة في شهوانية الأوربيين،وذلك لما شهدته من خلخلة في قيمها نتيجة ما عرف بين الرهبان والراهبات من فساد وبين المثليين منهم والسحاقيات، مما جعل الناس ينصرفون عن هذا "الترفع الرهباني "فراحوا يبحثون عن الشهوات.. والتطور الصناعي الذي فكك الأسرة، التي نزحت من البادية إلى المدينة فاشتغلت بأجر زهيد فأتيح لها البغاء والذعارة، وخرجت المرأة إلى ميدان العمل واضطرت إلى التبذل الخلقي لتضمن لقمة العيش ! ثم برز مفكرون وفلاسفة منهم فرويد وماركس ودوركايم ونتشه صاحب مقولة:"فناء الإلاه" وغيرهم حطوا من شأن الأخلاق ورفعوا من شأن المادة حتى ألهوها فكانت عقيدتهم"لاإله إلا المادة"! ووسائل الإعلام توجه نحو الإباحية والتحلل، ومفكرون آخرون "متنورون" أخلصوا النية للمادة قضوا على القيم الأخلاقية فأحلوا القيم المادية محلها فولدت الحداثة الغربية متعجرفة منبهرة بعقل الإنسان "السيد على الطبيعة"-الذي كان بالأمس القريب يؤلهها-،بل حتى الأخلاق طالها تحريف وفصل عن أصلها وهو الدين وهو ماعرف بعلمنة الأخلاق! وانخدع الناس بالشطحات المادية للفلاسفة إلى حين تبين خرافية وزيف تلك المقولات فراح الأوربيون من جديد يعودون للدين وخاصة منه الإسلام فكانت الهجمة الشرسة من البابا و"الماما" والرسوم الكريكاتورية التافهة!وبرزت الرأسمالية فوضعت ظروفا اقتصادية لاتتيح للمرء الزواج النظيف في سن مبكر،فملئت فترة الحرمان الجنسي للشباب الفائر الحامي بالمغريات التي لاقبل له بتحملها..والحصول على المرأة الزميلة في العمل أو الجامعة صار سهلا! هذه المرأة التي قدمها الإعلام جسدا فاتنا مغريا لايقاوم،والبغاء متاح في جميع صوره وألوانه! بيوت للذعارة وملاه ومراقص..بضاعة من لحم رخيص! والإعلام يوجه الناس إلى الإستمتاع بملذات الحياة..عش فإنما هي حياة واحدة! تلقف مثقفون بعد الإستعمار، الذي عمل عمله في بنيات مجتمعنا السياسية والإقتصادية والأخلاقية، تلكم الأفكار الحداثية -المادية- التي لم تكتمل كما قال "يورغن هابرماس"،فأسقطوها في مجتمع مختلف تاريخيا وحضاريا،فتشابهت الممارسة الفكرية تجاه دين مختلف،فأقصي الإسلام من الحياة العامة واستوردنا الوصفات السحرية من الغرب فقلدنا أنظمته السياسية والإقتصادية راجين أن يتحقق لنا ما تحقق لهم من تقدم مادي.فكان أن برز في مجتمعنا نفس الطابع العام ! "تحررت" المرأة من قيود الدين والأخلاق والتقاليد..وتحرر الناس! وغلت أيديهم وأرجلهم بأغلال البطالة والفقر والحرمان التي صنعتها الرأسمالية فارتمى بعضهم في أحضان الموت أو تولدت لديه أمراض نفسية..فتح الباب للإباحية من أجل الرواج السياحي،ورخصت الدولة للخمور والعلب الليلية حيث "سوق" اللحم الرخيص وغض المسؤولون الطرف أمام ممارسات الأجانب البورنوغرافية.وليس من سبيل أمام المرأة المتزوجة والغير المتزوجة المحرومة أو الطامعة في المزيد والتحرر من سلطة الزوج سوى الذعارة، وليس من سبيل أمام الشاب المقهور الذي لا يستطع الزواج سوى اللجوء إلى البغايا لقضاء وطره..وحبوب الحمل والعوازل متوفرة بثمن بخس فلم تعد الصلة الجنسية أمرا مثيرا للقلق لابد لكي تتحقق من الزواج ! وأصبح الإتصال قبل الزواج أمرا مألوفا، حتى أن البغايا ينافسن من قبل الهاويات! تلك نتيجة خلو جعبة "الحداثيين"من فقه المقاصد والمآلات .. لقد تمزقت تقاليد البادية وأخلاقها أو ماسماه "ول ديورانت" بالقانون الأخلاقي الزراعي،واستبعد الإسلام عن ضبط الحياة العامة في ظل المدنية والحداثة المادية المعطوبة التي ضيعت الإنسان وحرفت هويته وهي تهدد مجتمعنا بالزوال! واضطرابات نفسية طفت على السطح،زنا محارم وقتل لأفراد الأسرة..وماخفي أعظم! والأسرة ؟ لقد تمزقت أوصالها..لم تعد راحة وسكنا ورباطا زوجيا،وأطفالا يمسكون بأيديهم الرقيقة حبال هذا الرباط فتتوثق العلاقة وتتعمق في الوجدان..لايكاد يتزوج اثنان حتى تفتر علاقتهما لأنها لم تكن مؤسسة على معاني إنسانية بقدر ماكانت قبل الزواج مؤسسة على التشهي الجنسي . شاب وشابة تعودا على مشاهدة أفلام لا تخلوا من مقدمات العلاقة الجنسية أو عروضها فيبحث كل منهما عن من تتوافق رغبته الجنسية والمزاجية معه تحت مسمى"الحب" الممسوخ من قبل الإعلام والروايات والقصص والأفلام. يتزوجان ثم بعد حين تنطفئ شعلة ما سموه "حبا أبديا"، والطامة الكبرى حين يبحث كل منهما من جديد عن خيانة الآخر،عن عشيق وعشيقة،لأن الطرف الآخر-أوكليهما- فاتر بارد،والخطاب النسوي علم المرأة المساواة حتى في تعدد العلاقات !..ولم يبق سوى أن يحمى هذا الفجور بتشريعات وقوانين كما في الغرب..معنى هذا أن الأسرة في طريقها نحو الدمار! الأسرة المحضن الفطري للطفل، ما مصير الطفل إذا دمرت أسرته أخلاقيا أوانفصلت؟ مصيره التشرد والضياع الأخلاقي..وهاهو واقع كثيرمن الأطفال ينبئنا عن الإنحطاط الخلقي والتربوي عندهم، قد تكون لدى بعضهم ظروف اقتصادية مريحة لكن ماحال الظروف الأخلاقية والعاطفة الأسرية؟ والأولاد أصبحوا تواقين للجنس في سن مبكرة،والمراهقون يتسابقون في إعلان سلوكاتهم الجنسية أمام الأنظار في الشوارع وفي دور المعرفة ! هم مشردون فعلا ،غير مراقبين، في الملاهي ومقاهي الأنترنت.. إن العزوبية تهدد بنية المجتمع وتقوده نحو النهاية بلا شك،وأسباب العزوف عن الزواج ترتبط بما سبق من أفكار الحداثة المادية التي جسدها المجتمع الغربي،وعانينا نحن من سلبياتها نتيجة تقليد الغرب حذو النعل بالنعل! أسباب مادية اقتصادية تجسدها البطالة والفقرو تدني الأجوروغياب السكن وعدم القدرة على المسؤوليات الناجمة عن الزواج، وأسباب أخلاقية ترتبط غالبا بالتدهور الخلقي لدى الغالبية من الفتيات اللواتي يعشن حياتهن "متحررات" على النمط الغربي،وبعضهن مضطربات بين أفكار "التحرر" وأفكار العودة إلى دين الله،فتارة ملتزمات وتارة "متحررات"..وبعض الشباب يعبر عن خوفه من ارتباطهن بتجارب سابقة تسيء إليهم باعتبارهم أزواج المستقبل، ولا يخفى على أحد أن الانفتاح الزائد عن الحد أو"التحرر"هو ما ساعد على ذلك.وبعض الفتيات يشترطن شروطا مادية مبالغا فيها ويردن شابا وسيما وغنيا لديه بيت أنيق وسيارة ! وبعض الشباب يعتقدون أن المدونة منحازة إلى المرأة وحقوقها على حساب الرجل. إن الحل لهذه المعضلة المهددة للمجتمع يكمن في تفعيل المؤسسات الرسمية للقيام بدورها. لابد من تفعيل مؤسسة الوقف الإسلامي التي عالجت عبر التاريخ قضايا العزوبة والفقر والحرمان والتي لاتمث لها الأوقاف "الإسلامية" الحداثية بصلة،ولابد من فسح المجال أمام الدعاة والمثقفين للتواصل مع الشباب وتوجيههم ونصحهم بدل فسح المجال للراقصين والراقصات على جراحاتنا، والتوقف عن إهدار المال العام في مهرجانات لا تنشر سوى ثقافة اللهو والمجون، لابد من إحياء ثقافة التضامن والتكافل والبحث عن وسائل لتوظيف طاقات الشباب..لابد من حوار بين المكونات الرسمية للإجابة عن أي مواطن نريد وأي مجتمع؟ والإستنارة بآراء المثقفين والعلماء والإعلام الجاد..لأن مشاكل العزوف عن الزواج لاتنحصر في ماذكر بل لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بكل الفعاليات،سياسية وتربوية وأخلاقية واقتصادية واجتماعية وصحية..مشكلة العزوف عن الزواج مشكلة بنيوية آن الأوان من كل الفاعلين أن يلتفتوا لطرح حلول لمعالجتها،فمجتمعنا مهدد لايحتمل أن ننتظر الحلول الوساطية ليتحرك من يعنيهم التحرك..وإذا كان من موضوع يستحق التناول العميق من وسائل إعلامنا فهو هذا بدل بث ما يجعل الآخر يسخر منا ويكركر ويقهقه.. [email protected]