بعدٌ إنساني وتاريخي ومعرفي اختلط في ندوة فكرية نظّمتها مؤسسة "الربوة للثقافة والفكر" وعائلة الفقيد الحقوقي والسياسي والديبلوماسي البارز أحمد حرزني، بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لرحيله، لتسليط الضّوء على كتابه "الماركسية والأديان والحقائق المعاصرة"؛ وهو عبارة عن مذكرات من فترة الاعتقال السياسي التي قضاها في السجن خلال سبعينيات القرن الماضي. وخلال افتتاح هذا "اللقاء التأبيني" أشاد الأكاديمي والمؤرخ عبد الرحيم بنحادة بمبادرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان بنشر الكتاب، وأشار إلى أنه "في السبعينيات والثمانينيات أو سنوات الجمر والرصاص وجد عدد من الشباب أنفسهم أمام المحاكم بتهم ملفقة تقع تحت عنوان المساس بالأمن العام للدولة وتوزيع مناشير وبث الفتنة وعدم الاستقرار وغيرها من العناوين، وكان أحمد حرزني من بين هؤلاء الشباب الحالمين بغد أفضل". ظروف الاعتقال والتحرير وتابع بنحادة "قُدم للمحاكمة سنة 1972، بعد تعرضه لأشكال التعذيب المعهودة آنذاك، وحوكم بالسجن وأطلق سراحه سنة 1984 بعد قضاء 12 سنة في المعتقل"، مضيفا أنه "في الوقت الذي كرس عدد من هؤلاء السجناء وقتهم لكتابة المذكرات، وبعضهم كتب سيراً ذاتية وروايات ودواوين شعرية ومسرحيات، اختار حرزني أن يتفرد كعادته ويكتب مجموعة من النصوص التأملية في القضايا التي شغلته أثناء عمله النضالي". وأبرز أن هذه النصوص "متفرقة المواضيع ومتفرقة في الزمن كذلك، أنجزها في الفترة ما بين سنة 1978 و1981، وهي عبارة عن نصوص متفرقة تربط بينها، كما يقرّ صاحب التمهيد، طبيعتها التأملية التي تدفع القارئ أو المتأمل للتفكير فيها والتدبر بشأنها"، مشيرا إلى أنها "عبارة عن إسهام في النقاش النظري عن قدرة المشروع الماركسي في تغيير العالم، والظاهر أن هذه النصوص كانت أيضا ثمرة للنقاشات التي كانت جماعة من السجناء والمعتقلين تتداول فيها". ويسرد المؤرخ البارز أنه "عندما غادر حرزني المعتقل خرج محملا بنصوصه وركنها في رف مكتبته. لم يفرط فيها، لكنه أيضا لم يكن متحمسا لنشرها. صاحبته زهاء ثلاثين سنة، قبل أن يلتفت إليها عدد من المثقفين خلال فترة الحجر الصحي في 2020، بل استغله بعضهم لكتابة نصوص تخييلية وسير ذاتية (...) فلم يختر أحمد هذه الطريق الصعبة: كتابة مذكرات، لا سيما بعد المهام التي تولاها والمسؤوليات التي تقلدها في مساره". رجل بخصال كثيرة مبارك بودرقة، عضو هيئة الإنصاف والمصالحة، ألقى كلمة نيابةً عن رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان آمنة بوعياش، اعتمد فيها "حصراً" على "ما تدّخره الذاكرة"، مشيرا إلى أنه تعرف على الراحل حزرني سنة 2001 بعد عودته من المنفى في إطار المناظرة التي نظمتها المنظمة المغربية لحقوق الإنسان تحت عنوان "الاختفاء القسري في أية تسوية؟". وأضاف "عندما تأسست هيئة الإنصاف والمصالحة اعتمد رئيسها الراحل إدريس بنزكري على تعبئة المجموعة من العناصر الحقوقية". وتابع قائلا: "ازداد اللقاء مع حزرني بعدما عينه الملك محمد السادس خلفاً للمرحوم إدريس بنزكري، وقد كنت عضوا في المجلس. هذا التلاقي وقتها سمح لي بأن أكتشف العديد من الخصائص التي يتمتع بها المرحوم، منها الخصال الإنسانية والحرص على أمن الناس وتفهم حاجة المعوزين وحرصه على التكوين الأكاديمي للعاملين معه". ويحكي المتحدث أن الراحل أشرف على لجان كثيرة وأعمال عديدة خلال عمله "بوفاء وإخلاص"، كما نظم العديد من الندوات فيما يخص قضايا كانت تعد مهمة وراهنية من قبيل تعديل القانون الجنائي والمسطرة الجنائية، ونظم ندوة وطنية حول قوانين الصحافة، كما كان ترافعه واضحا من الناحية العملية وبشكل متواصل لنبذ الاتجار بالبشر. سجينٌ يقظ خديجة شاكر، رئيسة مؤسسة "الربوة للثقافة والفكر"، تساءلت "هل يمكن أن يتوارى أحمد حرزني وراء الأفكار التي يضج بها كتابه هذا؟ هل يمكن للقارئة او القارئ أن يبتعدا عن طيفه وهما يطالعان أقسام وأبواب وفصول هذا الكتاب؟". وقالت: "تجربتي الخاصة أثبتت أن حرزني لم يبتعد أبدا. كان قريبا، حاضرا في كل الفقرات. صحيح أنه لم يكتب بصيغة المتكلم إلا نادرا، لكن تأملاته وأفكاره في باقي أجزاء المؤلف لم تظهر في نظري منفصلة عن شخصه وعن وضعه إبان كتابتها وتوثيقها على الأوراق". وذكرت المتحدثة مختلف الأحداث التي عاشتها منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط والعالم وكذا المغرب، مشيرة إلى أن هذه الأحداث الملتهبة كان حرزني يتابعها من زنزانة السجن "ببرودتها وعتمتها"؛ يتأملها ويكتب ملاحظاته وهو يقرأ أو يعيد قراءة "البيان الشيوعي"، و"الإيديولوجيا الألمانية"، و"أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة"، و"رأس المال"، ومختلف الرسائل التي تبادلها ماركس وإنجلز. وأشارت شاكر في مداخلتها، التي ألقتها بكثير من التأثر أمام الحضور المكون من مثقفين وحقوقيين وسياسيين، إلى أن حرزني لم ينس وهو في السجن "الكتابات التي اهتمت بتطور أفكار ماركس وبحياته"، كما ظلّ "يقرأ كتاب "ما العمل؟" والأعمال الكاملة للينين، ويطالع كذلك القرآن والأناجيل وكتب التوراة وكتابات الأقدمين والمحدثين عن هذه الكتب المقدسة وعن حاملي رسالتها من الرسل والأنبياء". تصورات للحقيقة هاجر البدوي، باحثة في علم الاجتماع، قدمت قراءة في محتويات المذكرات، وبدأت بذكر ما أراده ماركس وفق الكاتب، وهو "أن يظهر القوى المحركة للتاريخ لكي يسهل صنع التاريخ. فالطبقات تعرف نفسها عبر الصراع، حيث يشكل الأفراد طبقة فقط للدرجة التي يكونون فيها منخرطين في صراع مشترك ضد طبقة أخرى"، ف"إذا ما اعتبرنا أن علاقات الإنتاج هي مجموعة من العلاقات الاجتماعية فإن البورجوازية لا يمكن أن توجد دون إحداث ثورة مستمرة في أدوات الإنتاج، ويحيلنا هذا على مثال الجيش". وتنقل البدوي عن حرزني بخصوص الديانات أنه "لم يكن أي توحيد آخر متعطشا للدماء مثل الديانة اليهودية، حيث يتساءل عن شرعية الوعد؟ ألم يكن من الممكن أن يتم ذلك سلميا؟ يتعلق الأمر هنا بدخول أبناء إسحاق في ملكية أرض الموعد". وتابع "إن الاستيلاء على أرض الموعد بالعنف وبالإبادة الجماعية هو خيار متعمد يقدم نفسه كعقيدة. لم يكن الأمر بالنسبة لليهود تمهيد الطريق لظهور الوحدانية في حد ذاتها بقدر ما كان الأمر يتعلق بإلغاء الآخر أي كان هذا الآخر". وبخصوص الإسلام أو "جنات الله لولا الشيطان"، فقد ذكرت الباحثة أن الكاتب يرى "الإسلام مرجعا قويا بشكل خاص لأي مشروع هدفه إعادة بناء المجتمع اليوم لأن فيه أهم شروط المصداقية المتمثلة بالخصوص في رفض التجبر والجبابرة"، مضيفة أن "يسوع كان مفرط الثقة، بل اكتشف أنه شجاع وأطلق العنان لشجاعته في مواجهة الطبيعة بأكملها. لقد فعل ذلك بتهور، فهو القائل إن كل شيء مستطاع للمؤمن، ونحن نعرف المعنى الحقيقي لهذه الكلمة".