أفنوا زهرة شبابهم في الجد و العمل ، اعتصروا أعمارهم في المثابرة و الكفاح و السهر على تسيير شؤون غيرهم من المواطنين ، ضحوا ، قدموا ، أعطوا ، لم يقصروا في شيء ولم يبخلوا بجهد . "" بناة الوطن ، قضوا سنين حياتهم في الاخلاص له و العمل لأجله بضمير صادق وحرص تام . أسسوا اللبنات الأولى لقواعد الشغل ، وبعرق جبينهم كتبوا أحرف المسؤولية ، علموا الأجيال كيف يكون البذل و العطاء ، وتركوا لهم رسالة مرسوم عليها طريق النجاح ، تركوهم يحملون المشعل من بعدهم ، سنة الحياة ، ولا أحد خالد في هذه الأرض . اليوم هم شابوا ، اليوم هم رحلوا عن مقاعدهم بالعمل ، اليوم أحيلوا على التقاعد ، واليوم هم أحياء في عداد الأموات . وهل هكذا يكون الجزاء ؟ المتقاعدون ... شريحة اجتماعية تعاني الأمرين ، تتوزع في شكل فئات ثلاث : فئة معاشها مريح منشغلة في مشاريعها التجارية و الاقتصادية ولا يعنيها موضوع الانخراط في جمعيات المتقاعدين للدفاع عن حقوقهم، وفئة يوصف معاشها بالمتوسط لا يكاد يسد الرمق خلال الشهر ، وفئة ذات معاش متدني الى الحضيض ، ولعل هاته وتلك هي الاكثر انتشارا والاشد تضررا و احتياجا . فمشاعر التذمر و الشعور بالاقصاء و التهميش يتقاسمونها فيما بينهم رغم ما بذلوه من جهد وتوظيف لطاقاتهم في سبيل العمل ، وخيبة الامل يجر أذيالها جميعهم جراء التفرقة الحاصلة و التفاضل بين المتقاعدين . أليس المتقاعد موظف سابق وزميل عمل ؟ كيف نتذكره في الاقتطاعات ونتجاهله في الزيادة في الاجور ؟ هل ارتفاع الأسعار المستمر لا يلحقه هو أيضا ؟ متقاعدون ... بنهاية مدة عملهم فقدوا الحق في كل شيء ، غادروا مقرات عملهم وهم لا يعرفون الى أين الوجهة بأجر محدود جامد ، وأبناء كسرت البطالة مستقبلهم وقتل تكافؤ الفرص أحلامهم ولا زالوا تحت رعايتهم واشرافهم . ودعوا زملاء العمل وبتوديعهم غابت جسور التواصل التي كانت تجمعهم ، لا أحد يتفقد أحوالهم بعد الرحيل ، لا سؤال ولا اطمئنان عن أوضاعهم الصحية ، لا من يؤنس وحدتهم أو يساعدهم على تقبل الوضع الجديد . أناس انتهت مدة صلاحيتهم بتنحيهم عن مناصبهم فرمي بهم في سلة المهملات ، شريحة طالها النسيان وقوبلت جهودها بالنكران و الجحود ، مبعدون من كل العلاوات و المكافئات ، مستثنون من الامتيازات و الاستحقاقات ومصادر الدخل الأخرى من الحكومة . بينهم من رحل الى دار البقاء تاركا أرملة و أبناء يعيشون براتب هزيل جدا ، و بينهم متقاعد يشكل المعيل الأوحد لأسرة متكونة من عدة أفراد ما يتقاضاه من أجر لا يغطي ابسط المتطلبات لكثرة المصاريف وتعدد الأشخاص ، دون أن ننسى الارهاق المالي الاضافي الذي يتكبده المتقاعدون أيضا أثناء سحب مستحقاتهم المالية بواسطة البطائق الالكترونية نتيجة الاقتطاعات التي تنهجها البنوك مقابل أي عملية تحويل أو سحب يجريها وقد أصبحوا مطالبين بتوفرهم على حساب بنكي . أين سبل العيش الكريم لرجال كرسوا شبابهم في خدمة الوطن ؟ أين الكرامة الانسانية التي تحفظ ماء وجههم أمام باقي أفراد أسرهم ؟ أمام كل هذه المشاكل التي تثقل كاهلهم ، بحثوا عن نوادي خاصة بهم يلتقون ببعضهم البعض فيها ويتحدثون بين جدرانها عن همومهم المشتركة فلم يجدوا ، خرجوا الى الشوارع و الفضاءات العمومية يجلسون ، يقتلون الوقت بلعب الأوراق و اللعب المسلية الأخرى المشابهة ، يقضون ما تبقى من العمر أملا فيمن ينظر لحالهم بعين اللطف وينتشلهم من حياة الملل و الضجر وقد تعودوا في السابق على وقت كله مملوء بالمشاغل و النشاط و الحيوية . كثيرون منهم من تمنى ويتمنى رحلة الى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج ،ولكن حلمهم الى الآن لم يتحقق وربما لن يتحقق أبدا اذا العمر لم يسعفهم والأجل المحتوم باغتهم . المتقاعدون اذن ، كتلة من التجارب و الخبرات أولى لنا الاستفادة من محطاتهم ، فمن هو في مركز العمل اليوم عليه أن يدرك أنه سيأتي عليه يوم ويغادر هو الآخرليأخذ بالتالي مكانا في صفوف المتقاعدين .قال تعالى : ّ وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء و الله لا يحب الظالمين ّ. سورة آل عمران / آية : 140.