في الحياة ليس ثمة رغبات مطلقة تتحقق في العالم المحسوس، فكثيراً ما تتوق نفس الإنسان إلى أمور لكن لا يدركها لأن قيود الحياة تعترض سبيله فهو يُنفق كله لتأمين الطريق نحو آماله التي لا يحدها حد ولا تنتهي إلى نهاية. يتخلى المرء عن رغباته، يسمح في طموحاته، يتنازل عن أمْنياته، يشطب جميع أحْلامه، ويختار مُكرهاً أن يبقى أسيراً ليفتدى جَسده من ظلمة الحياة فهؤلاء الذين يلهثون وراء الدنيا ويُسابقون الرعد في سبيلها وهؤلاء الذين تمتلئ بهم الأرصفة وتكتظ بهم الطرقات كلهم مُجبرون مُكرهون لأنه لا شيء يُعطى مَجانياً في عالم اليقظة . وقد كان المتنبي أولَ شاعر قتله ذكاؤه لما راح يتحدى الدنيا بدون توقف وجَعل هدفه الأول جمع الأموال ومدح الملوك والخلفاء والخروج إلى الحروب والغزوات لضرب أعناق العدى بالسيف ليَشهد الشعرُ أنه الفتى.. وكان يؤمن بضرورة المعاناة في سبيل الوصول إلى ما تشتاق إليه نفسه لهذا يقول : تريدين لُقيان المعالي رخيصة لابُد للشهد من إبرالنحل وقد استطاع أن يشغل معاصريه وأن يتحدى خصومه حتى انبرى بعضهم لنقد شعره واستخراج مواطن الضعف فيه عن سبق الإصرار والترصد لكنه رغم ذلك كان ثابتاً ثبوت الشمس في رابعة النهار وقد رد عليهم بقوله: أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت وإذا نطقت فإنني الجوزاء وإذا خفيت على الغبي فعاذر أن لا تراني مقلة عمياء وصموده هذا هو الذي جعله يواجه الموت بدل الفرار لما جد الجد فقد ذكرت الروايات التاريخية انه حين حُوصر من طرف أعدائه هم بالفرار فقيل له ألست القائل: الخيل والليل والبيداء تعرفي والطعن والضرب والقسطاس والقلم فلقي مصرعه وطوي التاريخ صفحته بعد أن عاش متنقلاً من بلدة إلى أخرى وحيث ما ذهب يولي وجهه شطر حلب وما أداك ما حلب. [email protected]