ليس ثمة مكان آخر في بلادنا، يتجسد فيه "الوقت" المغربي، أفضل من مدينة "خنيفرة".. في الطريق إلى هذه الأخيرة، عبر مكناس، يستقبلك زمن الإقطاع بكامل عنفوانه، على مدى نحو أربعين كيلومترا، حيث تمتد بِجانبي الطريق الرئيسية المُفضية إلى وارزازت، ضيعة "أداروش" مُحاطة بالأسلاك الشائكة.. مئات الهكتارات، تعتبر الأخصب من نوعها في البلاد، لا زرع فيها ولا بيوت فلاحين، فقط مراعي عشب شاسعة، حيث ترعى آلاف الأبقار.. بساط أخضر لا يحده البصر، يذكرك فضاؤه بالضيعات الأمريكية، الشهيرة: ال "رانش". "" تقول المعطيات المتوفرة أن ضيعة "أداروش" كانت قبل مستهل عقد سبعينيات القرن الماضي، عبارة عن مكان فلاحي آهل بالناس والبيوت والزرع والضرع، قبل أن يُشير خبراء فلاحة للحسن الثاني بفرادة الضيعة، وإمكانياتها الاستثمارية الثرة، فكان أن جاء المخزن إلى الفلاحين البسطاء، حيث كانوا أبا عن جد، وقالوا لهم: "هاتوا برهانكم، عقود تسجيل وتحفيظ، لإثبات مِلكيتكم".. الجميع كان يعرف أن المعنيين ليست لديهم دلائل ورقية، بل هم ورثة بالفطرة لأرض الآباء والأجداد، فأتى" الحل" أسرع من ارتداد طَرَفِ العين: "جمعوا قشاوشكم".. واليوم، وبعد مرور أزيد من ثلاثين سنة، توجد خيام الفلاحين المطرودين بالقوة، من مساكنهم وأراضيهم، مبثوثين عبر مساحات جرداء، في ضواحي مدينتي "أزرو" و "الحاجب" بينما قامت فوق أرض "أداروش" الخصب، ضيعة تربية الأبقار "الملكية" الأكثر فرادة في العالم. "أداروش" تعتبر مُقدمة لشرح كل شيء، بالمنطقة، ذلك أن باقي التفاصيل، بين شوارع وأزقة وقرى مدينة "خنيفرة" تمنح تنويعا على نفس المقام، بتعبير الموسيقيين، فإذا كان فلاحو وسكان منطقة "أداروش" قد أُرغموا على ترك أراضيهم، لترعى فيها أبقار الحسن الثاني، فإن سكان مدينة "خنيفرة" البالغ عددهم زهاء خمسمائة ألف نسمة، يوجدون في منزلة بين المنزلتين، لأن قدرهم السيئ، شاء لهم أن يتواجدوا في رقعة حضرية وقروية، غائرة بين جبال الأطلس، يعتبرها أصهار الملك، من آل "أمحزون" مِلكيتهم الخاصة، أبا عن جد، لا لشيء سوى لأنهم تسلموا عبر ثلاثة أجيال، منذ نحو مائة عام، أهم المناصب المخزنية، سواء خلال مرحلة الاستعمار أو بعدها. لا يوجد في مدينة "خنيفرة" متر مربع ذا بال، لم يُطالب به بعض آل "امحزون" المنتفشين بمواقعهم السلطوية، وعلاقة مُصاهرتهم بالعائلة الملكية، أليست زوجة الحسن الثاني من صُلبِهم، وبالتالي فإنهم أخوال وخالات الملك، وبما أن هذا الأخير، توجد بين يديه كامل السلطات التنفيذية والتشريعية في البلاد، فقد منحوا لأنفسهم حق صنع الزمن الطيب والرديء - كما تُفيد العبارة الفرنسية – وهم – أي آل "أمحزون" – غير مُقصِّرين في تقطير الكأس حتى آخر قطرة. ثمة في كل مكان، قصة عن جبروت هذه العائلة "الملكية" بالمُصاهرة، لا يستطيع تصديقها، السامع خارج مدار "زمن" خنيفرة الإقطاعي.. منها أن "حفصة أمحزون" صفعت فلاحا أمام ثكنة رجال الدرك، دون أن يستطيع هؤلاء الأخيرون تحريك الساكن، وطاردت امرأة وابنتها داخل مؤسسة تعليمية، وأشبعتهما ضربا، أما زوج أختها "أمينة" فسطا على قطيع غنم أحد الفلاحين بالمنطقة، وبقر بطون كل شياهه الحبلى، وذبح الأغنام ورمى بها للكلاب. وعمد بعض فتيان العائلة "الاستثنائية" إلى اختطاف واغتصاب فتيات ونساء، أمام أعين آبائهن وأزواجهن.. و.. و باقي قصص النهب والسلب والتنكيل، التي ما زال يخلدها التاريخ، عن مآسي عصور البشرية الغابرة. ثمة في المنطقة التي نحن بصددها، "قانون" غير مكتوب، يُطبقه أفراد عائلة، يعتبرون أنفسهم، فوق كل القوانين والاعتبارات الإنسانية، ولا أحد يستطيع الوقوف في وجههم، العامل يُحابيهم، ووكيل الملك يصرف النظر عن تجاوزاتهم، ورجال الدرك يمنحونهم التحية الرسمية.. وكل الناس يتوجسون خيفة، من التواجد في طريقهم، وجواب واحد عاجز على كل الألسنة: "هاذوك راه أخوال وخالات الملك". هل تعرفون مكانا آخر في المغرب يتجسَّدُ فيه "الوقت" المغربي، أفضل من مدينة خنيفرة؟