واهمٌ من يعتقد أنه بمجرد انتقاد وزير أو الاحتجاج ضده بدعوى فشله في تدبير قطاع معين سيتم تغييره. يستحيل أن يُؤخذ برأي من جعل من أريكته الدافئة داخل بيته وهو بين أسرته، أو من كرسي في المقهى وهو بين أصدقائه وخلانه منبرا يصرف فيه آراءه السياسية وهي لا تتجاوز جدران المكان الذي يوجد فيه. إن الذي يفعل هذا هو مثل ذلك الذي يلج قاعةً ليتابع فيلما سينمائيا وبينما هو كذلك ينطلق خياله ليغيّر مجريات الرواية، ويرسم مصيرا مغايرا للبطل، متناسيا أن الفيلم الذي يشاهده قد حدّد أحداثه ونهايته كل من كاتب السيناريو والمخرج والممثلين. إنه هناك للفرجة فقط وتقبُّل كل ما سيعرض عليه دون أن يرفع عقيرته بأي احتجاج أو تأفف، فإن صادفت الأحداث مزاجه فبها ونعمت، وإلا فإن سعيه مشكور لأنه ملأ القاعة ودفع ثمن تذكرة الدخول. إن الناظر من فوق يشفق على مثل هذه الفئات الحالمة التي تظن أن صوتها غير المسموع سيغير شيئا في واقعها وهي غير قادرة على بلورة رد فعل عملي على كل هذه المأساة التي تتابعها في سياسة بلدها. رد فعل مكفول بالقانون والدستور، وهو التصويت يوم الاقتراع. لضمان حياة سياسية واجتماعية عادلة ينبغي على ثلاثي المعادلة (الدولة، الأحزاب، الشعب) أن يقوم بدوره كاملا وألا يترك مساحات فراغ للطرف الآخر، فالطبيعة لا تقبل الفراغ. فإن كانت الدولة تهتم بالمصالح العليا للوطن وتتصرف داخليا وفقها بدعم هذا التيار السياسي دون آخر، والأحزاب السياسية تسلك جميع الطرق للنجاح الانتخابي وتولي تسيير الحكومة وما دونها من مجالس، فأين دور المكون الثالث للمعادلة، المواطن! إنه منقسم بين من يقاطع العملية الانتخابية برمتها متنازلا بذلك طواعية عن جزء من مواطنته، وبين من يرى فيها موسما لجني الفتات من المكاسب المادية. قد يقول قائل: هل تستحق الأحزاب السياسية ثقتنا وهي منخورة بالفساد؟ أقول: نعم، إنها تحمل جينات الفساد بين بعض منخرطيها وقيادييها (دون تعميم)؛ لكنها في الوقت نفسه تعد هدفا لإرادة خارجية تتدخل فيها لاختراقها والتحكم فيها! ما العمل؟ هل نسعى إلى تقوية الأحزاب السياسية من داخلها كما هي قوية في أوروبا والولايات المتحدةالأمريكية، أم نتركها لشأنها. إذا تركناها لشأنها، ما هو البديل؟ هذا التساؤل موجه إلى المواطن وأيضا إلى ذلك الذي يسعى إلى اختراق الأحزاب السياسية من فوق. في التعديل الحكومي الحالي قد يرتاح المتابع وهو يشاهد عبد اللطيف ميراوي يغادر وزارة التعليم العالي، ويجد في ذلك انتصارا لذاته ولرأيه؛ فهو يستبطن أن الماسك بزمام المبادرة غيّر ميراوي نزولا عند رغبة من ينتقده. لكنه سرعان ما يستفيق من أحلامه وهو يرى أن عبد اللطيف وهبي مستمر على رأس وزارة العدل رغم احتجاجات المحامين، وإضراب كتّاب الضبط، وإنزاله من قيادة حزبه، وسحب مدونة الأسرة من يده وإحالتها على العلماء بعد دفاعه عن تعديلات مثيرة للجدل.. واهمٌ، كذلك، من يدعي معرفة الأسباب الحقيقية لتغيير الوزراء واستقدام آخرين؟ فلا شيء يمنع من رؤية ميراوي أو غيره من الوزراء المعزولين في مناصب أسمى! لا أميل إلى مناقشة الأشخاص وبُعد مجال تخصصهم الأكاديمي أو المهني عن الوزارات التي عيّنوا فيها؛ فمن الأفضل أن يتماهى تخصص وزير مع الملف الذي سيحمله، خاصة في بعض الوزارات التقنية. فذلك أدعى أن يحالفه التوفيق (نظريا)، فلا يُتصور أن يكون وزير المالية غير مُلّم بها، لكنه ليس شرطا، والدليل هو فشل بعض الوزراء الذين تحملوا ملفات قضوا عمرهم المهني فيها. ولا أميل كذلك إلى الانتقاص من بعض المُعينين الجدد لأنهم كانوا أساتذة أو موظفين بسطاء، لأني لا أجد ضيرا في الطموح المبني على الكفاءة والاستحقاق. في الوقت نفسه أستغرب من الاستسهال الذي تتعاطى به الحكومة الحالية مع بعض الملفات الاجتماعية الحارقة؛ مثل التعليم والصحة، فتُسند حقائبها إلى هواة لا يمتون إليها بأية صلة، ولا عُرف لهم تصور حولها. لقد كانت الأحزاب السياسية، حتى وقت قريب، تتفادى تولي هاتين الوزارتين؛ لأن تكلفتها السياسية باهظة، وتُدخل الفاعل الحكومي في صراع مع النقابات وموظفي الصحة والتعليم قد تؤثر سلبا على شعبيته الانتخابية. يمكن إرجاع هذا الاستسهال لأمرين؛ أحدهما هو أن حكومة عزيز أخنوش أعدت رزنامة من الإجراءات المالية لإرضاء شغيلة هذين القطاعين حتى تضمن أصواتها وصمتها، كما فعلت مع رجال التعليم عقب إضراب السنة الماضية الذي دام ثلاثة أشهر، ورغم ذلك ما زالت فئات أخرى من القطاع نفسه تطلب حقها من الاستفادة المادية. ثاني الأمرين هو أن أخنوش ومن معه لهم طرقهم الخاصة في الفوز بالانتخابات لا تعتمد بالضرورة على الشعبية أو تحقيق الوعود الانتخابية، ولا يهمهم نسبة المشاركة التي تتناقص في كل محطة انتخابية. لكن الجدير بالنقاش العمومي هو هل تم اختيار الوزراء الجدد؛ لأنهم يتوفرون على الجدية اللازمة لإنجاح ملفاتهم، أم أنهم من المقربين والمرضي عليهم؟ كيف لمن لم يقدم سؤالا واحدا طيلة ثلاث سنوات وهو برلماني أن ينجح في تدبير قطاع وزاري كبير؟ أما الوزراء "غير المنتخبين" الذين لم يترشحوا في الانتخابات البرلمانية، فهؤلاء يَعتبرون أنفسهم غير معنيين بتقديم الحساب للمواطن؛ لأن جلوسهم في مقاعد الوزارات هو بفضل أولياء النعمة، فالحساب يكون لهؤلاء فقط! أما الحصيلة والنقاش العمومي والاشتباك السياسي، فلا شأن لهم به (حريق الراس وصافي). هالني كيف أن رئيس الحكومة نجح بهدوء في توطيد دعائم حكومته وحزبه في آن واحد، وإرضاء كل من يدور في فلكه وفلك زوجته؛ فشركاتهما أصبحت حديقة خلفية لاختيار الوزراء.. والدليل هو كمُّ السير الذاتية لوزراء الحكومة الحالية المكتوب فيها مستخدم (ة) سابق (ة) في شركة "أكوا" أو "أكسال". هذا دون الحديث عن التعيين في مناصب عليا، والتي يباشرها المجلس الحكومي والتي تفصل على المقاس. سيَلِجُ رجال وسيدات أعمال إلى بحر من الصفقات العمومية بمليارات الدراهم، وهم الخبراء الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف، وقد رأوا كيف أن تضارب المصالح ولَيَّ ذراع القوانين حتى تستجيب للمصالح الشخصية حطّمت جميع الأرقام القياسية في النسخة الأولى من هذه الحكومة الحالية. حينما كنت رئيسا لمقاطعة مغوغة بطنجة (20152021) علمتُ، من خلال القانون التنظيمي 113/14، بأنه من الخطايا الكبرى التي ينبغي أن يتجنبها الرئيس وأعضاء مكتبه هو تضارب المصالح؛ فلا يجوز له أو لأحد أعضاء مكتبه شراء كرسي بألف درهم مثلا من شركة تابعة لهم أو لأحد أقربائهم، تحت طائلة العزل! هل تبخر هذا القانون أم لم يعد له وجود، أم انتحر عندما رأى كيف يغتصب مائة ألف مرة في اليوم؟! لا أظن أن رئيس حكومتنا الموقرة توقع أن يواجه بكل هذا الهدوء وهو يشرف على عملية تدوير ناجحة لأشخاص تجولوا بين دواليب رئاسة الحكومة، والشركات الخاصة، والوكالات الوطنية. وآخرها تعيين مديرة عامة للوكالة الوطنية للدعم الاجتماعي من حزب رئيس الحكومة، وهي التي ستتولى تلقي طلبات الاستفادة من الإعانات والبت فيها ومعالجة التظلمات المرتبطة بها، والتحقق من صحة المعطيات المصرح بها من أجل الاستفادة من الإعانات، وإعداد المعطيات الإحصائية الخاصة بالفئات المستفيدة من النظام. إذن، ستكون لدى هذه الوكالة قاعدة معطيات ضخمة لجميع الأسر المغربية التي تعاني الهشاشة والفقر. ما الذي يضمن عدم الاستفادة منها في الانتخابات المقبلة؟ إن السيدة التي ستشرف على هذه الوكالة شغلت سابقا المناصب التالية: مديرة ديوان رئيس التجمع الوطني للأحرار (2016-2021)، ومستشارة لوزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية (2014-2017)، ومسؤولة التخطيط الاستراتيجي في مجموعة "أكوا القابضة (2010-2014)، كاتبة عامة لدى رئيس الحكومة الحالي. وشكرا! أتطلع إلى رؤية رد فعل رئيس جماعة أو مقاطعة يقبع خلف القضبان، عُزل من منصبه وتوبع قضائيا بتهمة تبديد أموال عمومية، كيف سيكون انطباعه وهو يرى وزيرا عُين في النسخة المعدلة لهذه الحكومة وهو محكوم قضائيا بسنتين حسبا نافذة على خلفية تقارير المجلس الأعلى للحسابات التي اتهمته بالفساد المالي، ولا يزال متابعا أمام المحاكم. ما المغزى من هذا التعيين؟ وأية رسالة سيتلقفها قضاة المجلس الأعلى للحسابات، وقاضي المحكمة الاستئنافية التي يتابع فيها المعني بالأمر، وأية قيمة للعمل السياسي التي يدعي الجميع أنه يحاول إعادة الاعتبار له. لذلك، كان عنوان هذا المقال "التعديل الحكومي وليس ما يطلبه المستمعون"؛ لأنه بكل بساطة يمكن لأي مواطن أو مستمع أن يتصل بإذاعة معينة ويطلب أغنية لميادة الحنّاوي أو لمحمد رويشة، ويستجاب لطلبه في الحين، ويشكره مقدم البرنامج لأنه ساهم في نجاحه. أما في التعديل الحكومي والعمل السياسي فميزان القوى هو الحاسم في الأمر، وما دام عموم الناس لا يبالون بمن يدبر شؤونهم ولا يساهمون في صناعته عبر صناديق الاقتراع فسيستمرون على حالهم، وقديما قال سقراط: "تكلم حتى أراك".