في «مديح الظل العالي» لمحمود درويش هل نحن أمام قصيدة المقاومة الأنيقة العنيفة العفيفة الشريفة في علاقة بالهوية وهي تتوسل اللغة الواصفة لحالات الرعب المُهيمن على العرب؟ ومتى كانت العرب يتهددها خطر التهجير والاجتثاث من أرضها من قصائدها من لغتها؟ أم نحن أمام مَحكي شعري ببنيات لغوية مركبة تحيل على الإنسان في علاقة بالمقولتين السيميائيتين الكبيرتين: «الحياة والموت»؟ سنروم فرضية السؤال الثاني ووجهة نظر محكي شعرية محمود درويش وحضور اللغة، وكأنها طلقات أصابت جسم مات من قبل أن يسمع أو يقرأ القصيدة ومن ثمّة ينظر في محكياتها وبنيات عمليات بطلها الإشكالي، محكيات لأنها تناولت مواضيع الحياة في علاقة بالموت؛ إننا أمام «الشِّعر داخل الشِّعر» استحضار ذاكرة ممتدة في زمنية أسطورية ترتبط والخلق الأول على هذه الأرض، وهذا حقل الكلام في حقول مختلفة وأغراض متنوعة عكس الكلام في موضوع واحد رتيب ومُمل، يقول حازم القرطاجني «القصائد منها بسيطة الأغراض، ومنها المُركبة التي يشتمل فيها الكلام على غرضين مثل أن تكون مشتملة على نسيب ومديح. وهذا أشدُّ موافقة للنفوس الصحيحة الأذواق». ونحن نتدرج في تذوق لغة محكي الظل، هل هو مديح أم رثاء أم عتاب وحسرة أم بعث للغة بعد موتها فينا؟. لقد ارتكزت القصيدة-الخطاب الشعري «مديح الظل العالي» على أغراض متنوعة في علاقة بالاستعارة والوصف المجازي وقوّة العبارة الصريحة المتمثلة للفعل. يقول الشاعر: «نفتح علبة السردين تقصفها المدافع (...) من سيدفِننا إذا مُتنا؟ عرايا نحن، لا أفق يُغطينا ولا قَبرٌ يوارينا». تتخذ المقولة الظل في القصيدة الشعرية قوّة الجرعة الاستعارية من خلال لغة بكتابة شعرية ميتا-أدبية، إنه ظل عاري، والعري كاشف لمورفولوجيا الجسد، إنه يزيل عليه كل أشكال التخفي والتستر حيث يسيطر الظهور وينكشف تجلّي الظل فيحضر كجرعات لغوية وظيفية على تدرج المحكي الشعري بمقصدية متغيرة تمزج بين الواقعي والتخييلي المجازي. فمحكي الشعر هو موطن المجاز والاستعارة والمحسنات اللغوية في علاقة بدينامية الإيقاع وهو إيقاع يحيل على صانع البطل في تمزقاته وتشظيه الوجودي وحالة اللا-يقين، إنه إيقاع الجسد العربي في فرحه وحزنه الذي طال فطالت القضية واقتربت مؤن أن تشمل الجميع ولو رمزياً. بمعنى أننا كائنات تعيش بالرمز أكثر من التجسيد. فرمزية الهوية لا تقاس بالعيش وإنما بالحياة الرسالة. إن كل قصيدة شعرية بتعبير تاديي هي: «محكي وحكاية وإن بدرجة مختلفة» إذن، المحكي موجود في كل شيء (بتعبير رولان بارث). إنه مجموع علاقات لأحداث ووقائع تُروى وتُكتب وتتخذ موقعا في حكايات الناس في علاقة بأحاسيسهم ومشاعرهم وحيواتهم، إنه تحمله اللغة وأيضا أشياء كثيرة خارج اللغة ونعني به لغة التأويل وهي لغة الحضارات القديمة والأسطورة. إن الكتابة الشعرية عند الشاعر محمود درويش هي الرحم الأمومي لهذا المحكي الموسوم بالمحكي الشعري. إنها تحتضنه وتغذيه وفق لغة راقية لها امتدادات قبل الميلاد، فالشعر يحضر عند اليونان ما قبل الميلاد مما دفع بأرسطو إلى صياغة تنظيرات حول مواضيعه وطرائق تناوله فكان تأليف كتاب "فن الشعر". كذلك العرب القدامى أسهموا في تثمين الشعرية العربية وصنعوا وأبدعوا في المعلقات الشعرية، أو ما اصطلح عليه من بعد ب علم العرب «الشعر ديوان العرب»، وعلى حدّ تعريف محمود درويش للشعر قال: «شعبٌ بلا شعر شعبٌ مهزوم»، من هذا المنظور النقدي العربي نكون أمام القصيدة الديوان/ العلمية المنفتحة على القابلية للتمثيل الواقعي العربي الراهن، إنها راهنية مواضيع ترتبط والحياة والوجود وأسئلة البداية والنهاية على هذه الأرض. إن القصيدة تحكي شيئا ما وبلغة ليست كلغة المحكي الروائي أو خطاب محكيات السياسة والتاريخ والإيديولوجيا. بل إنها ترهين لواقعية عربية بأشكال تعبيرية تقترب من أساليب خطابات شفافية بوح الجرح العربي، ونجد مجموعة من الشعراء تناولوا مواضيع شفافية بوح الجرح، على سبيل المثال لا الحصر: بدر شاكر السياب في قصيدته «أمل الضياع»: يقول فيها: «أرأيت قافلة الضياع؟ أما رأيت النزحين الحاملين على الكواهل من مجاعة السنين (...) قابيل أين أخوك...من يدفن الموتى لنعرف أننا بشر جديد» أيضا، أمل دنقل، سميح القاسم، وعبد الله راجع في قصيدته: «أعلنت عليكم هذا الحب» يقول: «ولا حول ولا قوة بالعدس المسلوق وبالشاي البائت وسآتيكم في هذا العام الفائت بقصيدة مدح مطلعها مرثية للزمن العربي، وآخرها غزل أرفعه للسّحَن الموشومة بالقهر هنا بدءاً من جسدي حتى آخر مثقوب في بيروت». كم أنتم ملائكة أيها الشعراء! حتى في الهجاء تقولون عنه مديح، وأن الحرب تقولون عنها الحب، لغة أنيقة تحضر في الشعر العربي الحديث وتكشف عن التمزقات في الهوية لتتمزق اللغة وتنهض لغة أخرى تصف وتصنف البطل الإشكال: «...واذهبْ فقيرا كالصلاةِ وحافياً كالنهر في درب الحصى ومُؤجلاًّ كقرنفُلهْ لا، لستَ آدم كي أقول خرجت من بيروت أو عمّان أو يافا، وأنت المسألة». فالقصيدة عند محمود درويش ترتكز على محكي شعري يقترب من سردية خطاب النثر، لكن شكل هذا المحكي يتخذ بصمة القصيدة من خلال وظيفة العمليات التي يقوم البطل العربي الإشكالي في صياغة آثار معنى منفتح على التأويل، وهذه طبيعة حقل الكتابة الشعرية، إنها مجموع تقنيات الوصف كما يحضر الوصف في السرد الروائي من خلال الفضاء والزمن والشخصيات، لكن شخصيات القصيدة تتسامى على شخصيات الرواية، فالشعر أوسع استعارة من الرواية، ولأن الرواية بنت الغرب، فإن الشعر ديوان العرب. من هذا المنظور، الاستعارة تلتحم في شكل الثورة البداية: «أنا أوّل القتلى وأخر من يموت، إنجيل أعدائي وتوراة الوصايا اليائسة، كُتِبت على جسدي، أنا ألف وباء في كتاب الرسم يشبهني» تُصوّر القصيدة استعارة قتل الأخ لأخيه وأسطورة الدّم الأوّل على هذه الأرض، إنها بداية المأساة، هذه التصويرية المأساوية تتدرج على طول مسارات المحكي الشعري لتحيل على سرقة وفاء الأخ لأخيه وخيانة الصديق لصديقه وخدلان الرفيق لرفيقه: «سقط القناع لا إخوة لك يا أخي، لا أصدقاء يا صديقي، لا قلاع (...) سقطت ذراعك فالتقطها وضرب عدوّك.. لا مفرُّ وسقطت قربك، فالتقطني واضرب عدوُّك بي.. فالآن أنت حرُّ». يفضي تلفظ الشاعر إلى بناء صراع بالأشلاء وهي مادة استعارية تؤشر على حقيقة الفعل لتحصين ما تبقى من ذات البطل العربي في مواجهة نصوص الأساطير الأولى لتحقيق هويته الأولى والأخيرة، هذا الصراع يستضيح عن فضاء شامل ودامج لكل الفضاءات المدمجة، إنه فضاء الأرض في كليتها بحرا وبرّاً، يقول: «والبحر صورتنا، ومن لا برَّ له، لا بحر له». إن الفعل وفق مسارات محكي الملحمة نجده يرتبط بالأرض؛ يقول: «يموت من لا يستطيع الركض في الطرقات» المديح، هو لغة الحبيب الجريح، الذي ينتقي كلماته بأناقة شاعر متمرس، شاعر يربط عظمة الفكرة بالرحلة الإنسانية وفعل دفاعه عن أرضه وهويته؛ يختم صرخته الشعرية وكأنها صرخة ولادة لكل من استطاع أن يكون شاعرا: «ما أوسع الثورة ما أضيق الرحلة ما أكبر الفكرة ما أصغر الدولة! ونختم بمقولة تحيلُ على قول ترهين حالة العرب: «حين يبتسم المخيّم تعبس المدن الكبيرة». حين تبتسم مدن العرب ستعبس وتسخط مدن الغرب.