كشف الصحافي "جمال براوي" مؤخرا عن جزئية مهمة، وذلك حينما قال أنه كاد ذات مرة، أواخر عقد تسعينيات القرن الماضي، أن يظفر بحوار، الأول من نوعه، مع محمد السادس، "لولى (التبرهيش ديال فاضل العراقي)" كما قال براوي، وحسب المستفاد من الحيثيات التي ساقها هذا الأخير، فإن القصر، كان يريد أن تقوم إحدى المطبوعات المغربية، هي "لوجورنال" (كان الحسن الثاني معجبا بها، حسب إفادات أصحابها) بإجراء حوار مع ولي عهد آنذاك، الملك محمد السادس حاليا.. غير أنه لأسباب حصرها براوي في "تبرهيش" باطرونه السابق، حالت دون ذلك، أما صحافي آخر هو "علي عمار" فتحدث في كتابه "محمد السادس: سوء الفهم الكبير" عن "خلافات" بين إدارة "لوجورنال" و فؤاد علي الهمة، بشأن بعض شروط إتمام مشروع الحوار، ومنها أن القصر كان يريد الحصول على طلب مكتوب بخط يد إدارة "لوجورنال" يُفيد رغبة إجراء الحوار مع ولي العهد. وهو الشرط الذي رفضته الإدارة المذكورة، حسب "عمار".. "" لم يتم الحوار الفريد من نوعه، وظلت الحسرة عالقة، في نفس "جمال براوي" كما عبر عنها باستفاضة، إلى حد إلقاء اللوم على قبيلة الصحافيين وحدهم، باعتبارهم "خَسْرُوا اللَّعب" لأنهم لم يُقدِّروا رغبة القصر، في الانفتاح على الصحافة المغربية، حق قدرها. إن ل "براوي" ومَن سار على هدْيِه، كامل الحق في النظر إلى الأمور، من تلك الزاوية، وبإمكانه أن يتحسر ويندب حظه أبد الدهر إذا شاء، غير أنه تجاوز ذلك في التعبير عن رأيه، ليُكيل لفصيلة من قبيلة الصحافيين، لا ترى نفس رأيه، اتهامات بعدم النضج، وغيرها من أحكام التنقيص، التي لا يقولها الجزارون والإسكافيون.. في حق بعضهم البعض، وفي ذلك تَجَنٍ ل "براوي" على نفسه، قبل غيره من زملاء المهنة. يجدر بنا أن نبسط بعض أوجه الاختلاف، بين وجهة نظر الزميل "براوي" ومَن معه، والذين يرون رأيا آخر، ومنهم كاتب هذه السطور. فحسب مُعطيات مُتوفرة، كان نوع من "الود" قد نشأ بين شلة أصدقاء محمد السادس، وبعض الصحافيين، في مرحلة من آخر سنوات حياة الحسن الثاني.. "ودٌ" وصل حد تكليف ولي عهد آنذاك، لثلاثي إدارة "لوجورنال": "فاضل العراقي" و "أبو بكر الجامعي" و "علي عمار" بالتدخل لدى إدارة جريدة "لومند" الفرنسية، في شأن قضية طريد القصر "هشام منداري" التي كانت حينها تقُضُّ مضجع القصر.. بل وكان "حسن أوريد" أحد زملاء محمد السادس، على مقاعد الدرس، يكتب مقالات في "لوجورنال" و "الصحيفة" كما أن المساهم المالي الرئيسي، عند مرحلة التأسيس، في شركة "ميديا تروست" المصدرة للجريدتين، لم يكن سوى "حسن البرنوصي" المعروف بعلاقات الصداقة والتجارة (في مجال الأثاث) مع القصر.. وبالتالي كان كل شيء جاهزا، في نظر الملك محمد السادس، وشلة أصدقائه من كبار مُساعديه، للاعتقاد بقوة، أن أحد أفضل مكونات صحافة طليعية في البلاد، توجد في جيب الملكية، لخدمة مرحلة انتقال الحكم من ملك إلى آخر، غير أن مسؤولي "لوجورنال" فهموا أن ذلك كان ينطوي على مأزق مهني حقيقي، يضعهم في موقع لا يُحسدون عليه، وحينها اتُّخِذ قرار فك الارتباط "المعنوي" مع القصر، ليرحل "حسن البرنوصي" من مالية "ميديا تروست" خوفا على أثاثه من الاحتراق، وجمع حسن أوريد أقلامه، ليتسلم وظيفة الناطق باسم القصر، ولتبدأ معركة الشد بين "لوجورنال" ومسؤولي القصر الجدد، انتهت بتسفير قسري للصحافي "أبو بكر الجامعي" إلى أمريكا. وكان في ذلك عنوان كبير عن وصول الخلاف إلى مداه، بين "أصدقاء" الأمس في القصر، وبلاط صاحبة الجلالة. كان القصر يُريد صحافة "جديدة" تخدم الخطط التي رسمها لمرحلة ما بعد الحسن الثاني، وهو ما كان محط رضا صحافيين مثل "جمال براوي" و "نرجس الرغاي" وغيرهما، ورفض من طرف آخرين، مثل "علي لمرابط" و "أبو بكر الجامعي".. ومن التفاصيل بهذا الشأن، أن كاتب الدولة في الداخلية السابق "فؤاد علي الهمة" لم يكن يمل من مُراكمة لقاءات "خاصة" ببعض مدراء الصحف، وصحافيين، يتم اختيارهم ب "عناية" لتقطير رسائل القصر إلى الصحافة، وإذا كان ذلك قد أثمر "نتائج" من خلال بعض ما كان يُكتب، فإنه كان بلا جدوى، لأن أصوات الرافضين، وعلى رأسهم "لمرابط" و "الجامعي" كانت تقض مضجع النافذين، نظرا لصداها القوي بالخارج، سيما في فرنسا وأمريكا، وبالتالي ذلك العداء، الذي جعل الملك يرفض أن يُرافقه أي صحافي مغربي، في سفرياته إلى الخارج، وهو وضع فريد على مستوى العالم، كما لاحظ ذلك "براوي" مُتحسرا. لقد كان مطلوبا أن تشتغل الصحافة، سيما تلك المحسوبة على ضفة "المُستقلة" من داخل منطق النظام، الذي كان يعيش مرحلة إعادة الانتشار الصعبة، وكان القبول بلعب هذا الدور، يعني دق آخر مسمار في نعش المرحلة السياسية المُسماة: "التناوب" وذلك باعتبار أن إيناع حساسية الصحافة الجديدة في البلاد، كان محسوبا على مطامح المرحلة المذكورة، وقد كان من المُفارق حقا، أن أقطاب حكومة "التناوب" مثل "عبد الرحمان اليوسفي" و "العربي المساري" وغيرهما هم الذين تكفلوا بتوفير سوط ضرب صحف "لوجورنال" و "الصحيفة" و "دومان" في دجنبر سنة 2000. ليكتشفوا بعد ذلك بسنتين أن المخزن "الجديد" لم يعد بحاجة إلى "خدماتهم" في خريف مرحلة "التناوب" الشفوي. وليُكمل بعد ذلك المخزن المذكور، مسيرة تمزيق جيوب مقاومة المَخْزَنَةِ، وعلى رأسها الصحافة التي تُنعت بالمستقلة. الواقع أن وجه الخلاف بين الطرفين، كان وما زال ينطوي على بثور سوداء، لم يبدل كلاهما، سيما مسؤولي الدولة الجدد، جهدا لإزالتها، فهؤلاء الأخيرون، وكما هو شأن كل مَن يجد نفسه خلف مقود إدارة الشأن العام، رأوا أن الأولويات، التي وضعوها في مكاتبهم المُغلقة، تعلو ولا يُلاحقها أو يُوازيها شيء آخر، فكيف لصحافة وليدة، تتخبط في رحم النشأة، أن تتجرأ على أن يكون لها رأي، غير ذاك الذي يراه المخزن "الجديد"؟ أليس لهذا الأخير الكلمة الفصل، في كل مناحي الشأن العام.. وكيف يتنطع بضعة صحافيين، يُحسبون على رؤوس الأصابع، وهم يدورون، شاؤوا أم أبوا في فُلْكِ بحر المخزن اللُّجي؟ نعم، إنه مثلما سُمِحَ للنشأة، أن تكون من نفس الرحم، يكون سهلا أيضا، وأدها، فعلى كل حال، ليس في البلد بَعْدُ، تيارات تحديث سياسي واقتصادي، تُنافس خيار المخزن الأحادي، وبالتالي فإن ما ينشأ خارجه، ليس سوى عوارض سطحية تُمسح بزفرة. يُمكن ل"جمال براوي" أن يتحسر، على مشروع حواره الفريد الذي لم يتم، كما يُمكن لمدير جريدة شعبوي مثل رشيد نيني أن يقول للكاتب الخاص للملك: "امنحونا الإشهار ولا شيء يهمنا بعد ذلك".. ويمكن لغيرهما، أن يقول أو يفعل ما يُريد، فالأرض كما العاهرة، يطأها البر والفاجر، وتلك سنة الحياة، غير أنه ليس من حقهم أن يقولوا: "اسمعوا إن الصحافة هي كما نراها نحن، وما دون ذلك باطل".. وهو ما يلتقي مع قصة الأحمق الذي نادى في الناس: إن القمر مِلكي.. وحينما سأله الناس: كيف امتلكته؟ أجاب: لا أحد قبلي قال أنه يملك القمر!