مباشرة بعد المباحثات التي أجراها ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، مع وفد من بريتوريا يقوده أوبيد بابيلا، عضو اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني الإفريقي (الحزب الحاكم في جنوب إفريقيا)، التي دعا من خلالها إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري مع المغرب لمواجهة التحديات التي تواجه القارة السمراء، خرج الحزب ببيان كشف، حسب مهتمين، وجود صراعات واختلافات بين النخب السياسية بشأن تعاطي هذا التنظيم السياسي مع ملف الصحراء والعلاقات مع الرباط. وذكر الحزب الداعم للانفصال في الصحراء، في البيان الذي أصدره بعد هذه المباحثات، أنه طلب من أوبيد بابيلا تقديم توضيحات وتفسيرات حول التصريحات التي أدلى بها في الرباط بشأن تكثيف العلاقات الاقتصادية مع المغرب، الذي قال عنه إنه "يواصل احتلاله غير المشروع للصحراء"، وفق تعبير البيان ذاته الذي اعتبر أن هذه التصريحات "تتعارض" مع سياسة الحزب ومع المواقف التي أعاد التأكيد عليها خلال مؤتمره الخامس والخمسين. وقال المؤتمر الوطني الإفريقي إن لديه "موقفاً مبدئياً وطويل الأمد من التضامن مع الشعب الصحراوي على أساس الالتزام بمناهضة الاستعمار وضمان الحق في تقرير المصير"، مسجلاً عزمه "مواصلة العمل مع حلفائه، وعلى رأسهم الجزائر، لضمان حق الشعب الصحراوي في الحرية التي حُرم منها منذ مدة طويلة"، بتعبير البيان. تفاعلاً مع هذا الموضوع، قال البراق شادي عبد السلام، خبير دولي في إدارة الأزمات وتحليل الصراع وتدبير المخاطر، إن "استقبال بوريطة لوفد جنوب إفريقي برئاسة أوبيد بابيلا، يندرج في إطار نهج اليد الممدودة التي تلتزم بها المملكة المغربية تجاه عمقها الإفريقي في إطار إستراتيجية أطلسية تؤطرها الرؤية الملكية من أجل النهوض بالأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية للقارة الإفريقية، وتحقيق طموحات الشعوب الإفريقية في تنمية مستدامة بعيداً عن التجاذبات الشخصية والصراعات الإقليمية". وأوضح البراق، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن "الوفد الجنوب إفريقي عبّر عن مواقف حقيقية لقطاع واسع من النخبة السياسية والاقتصادية في جنوب إفريقيا التي ترى في المغرب شريكاً اقتصادياً متميزاً، وتنظر بإعجاب إلى الدور المغربي التاريخي والفاعل في تحرير الشعب الجنوب إفريقي من نظام الفصل العنصري". وأكد الخبير ذاته أن "العلاقات المغربية الجنوب إفريقية، رغم الاختلافات العميقة في وجهات النظر بين الرباطوبريتوريا حول العديد من القضايا، وبشكل خاص قضية الوحدة الترابية للمملكة المغربية، تبقى علاقات دبلوماسية واقتصادية قائمة؛ إذ تعد جنوب إفريقيا أحد الشركاء التجاريين الرئيسيين للمغرب في القارة الإفريقية، حيث بلغ إجمالي حجم التجارة بين البلدين أكثر من 634 مليون دولار في سنة 2022، وهو الأمر الذي يؤكد وجود أطراف فاعلة داخل النظام في جنوب إفريقيا لها رؤية مختلفة لطبيعة السياسات الخارجية واتجاهاتها". وتابع بأن "الفاعل المؤسساتي المغربي، في إطار فهمه الدقيق للتحديات الجيو-سياسية التي تواجه القارة الإفريقية، يحافظ على شعرة معاوية مع الحكومة الجنوب إفريقية في إطار الحفاظ على مصالح الشعوب الإفريقية ورغبة الرباط الأكيدة في عدم تحويل إفريقيا إلى ساحة صراع جيو-سياسي بين قوتين إقليميتين في شمالها (المغرب) وجنوبها (جنوب إفريقيا) حول قضية محسومة سلفاً إلى جانب الشرعية الدولية والتاريخية والسيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية". واعتبر الخبير الدولي في إدارة الأزمات وتحليل الصراع وتدبير المخاطر أن "نتائج الانتخابات العامة الأخيرة في جنوب إفريقيا أكدت احتدام التنافس على كرسي الرئاسة وتصاعد وتيرة الاستقطاب السياسي في إطار حرب المواقع بين صقور وحمائم حزب المؤتمر الوطني الإفريقي حول العديد من الملفات الداخلية والخارجية"، مضيفاً أن "هناك صراعاً صامتاً في بريتوريا حول قضية الصحراء بين نخبة سياسية واقتصادية تجد مصالحها مع البعد التنموي المهيكل الذي تؤكده السياسات الإفريقية للرباط، وتيار غارق في النمطية واجترار المواقف السياسوية المتجاوزة داخلياً وخارجياً، متمثلاً في الفريق الذي دبّج البلاغ الأخير لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي". وشدد البراق على أن "هناك دوراً جزائرياً في الموضوع، حيث إن تراجع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي عن موقف سياسي مسؤول لقيادي رفيع المستوى في الحزب عبر بلاغ مستعجل والإصرار على ذكر الجزائر في نص البلاغ، هو تأكيد على الدور الجزائري المكشوف الهادف إلى محاصرة وتعطيل المسار المتقدم لانتصارات الدبلوماسية المغربية"، موردا أن "التمدد الجيو-سياسي المغربي في إفريقيا باستخدام قنوات دبلوماسية متعددة بات يشكل أمام تيار الصقور داخل الحزب الحاكم في جنوب إفريقيا تحديات قارية، تعمل بريتوريا جاهدة على وقف تأثيره على تموقع المغرب السياسي كدولة رائدة إفريقية". من جهته، أكد سعيد بركنان، محلل سياسي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن "التناقض في تصريح نائب رئيس العلاقات الخارجية بحزب المؤتمر الوطني لجنوب إفريقيا ومؤاخذات بيان الحزب على هذه التصريحات، يجد تفسيره في التوجهات التي تحكم تيارات الحزب الحاكم في جنوب إفريقيا، بين تيار أول متشبث بالمرجعية النضالية والتحررية التي تتأسس عليها مشروعية الحزب، كحزب ارتبط بتحرير البلاد بقيادة نيلسون مانديلا وسار على منهج مناصرة الحركات التحررية داخل وخارج إفريقيا. هذا التوجه يضع جنوب إفريقيا كدولة في مواجهة مجموعة من المشاكل السياسية مع العديد من الدول، مما يفوت عليها فرصاً كثيرة للرفع من مستوى حضورها الاقتصادي كقوة اقتصادية فاعلة ورائدة في القارة الإفريقية وفي محيطها الإقليمي والعالمي". التيار الثاني، يضيف المحلل السياسي ذاته، "يرى أن العلاقات الاقتصادية يمكن أن تكون مدخلاً من مداخل تجاوز الخلافات السياسية، وأنها من السبل الأكيدة لحلها، وأن المرجعية الثورية لحزب المؤتمر الوطني لجنوب إفريقيا تضعه في عزلة سياسية قارياً ودولياً وتؤثر على دور جنوب إفريقيا كدولة في السوق الإفريقية، مقابل توسع دول أخرى أعضاء معها في البريكس، مثل الصين التي تستحوذ على نسبة كبيرة من الرواج الاقتصادي في القارة". وزاد شارحاً: "على ضوء هذه الازدواجية، وعلى ضوء الصعوبات التي واجهها الحزب للفوز في الانتخابات التشريعية الأخيرة، يأتي تصريح أوبيد بابيلا من الرباط ليؤسس لهذا التوجه الجديد داخل الحزب الحاكم في هذا البلد الإفريقي، وليعلن صراحة أن التوجه الاقتصادي هو ما يجب أن يحكم سياسة الحزب لكي يحافظ على الحكم في البلاد، ولكي تُحافظ البلاد على دورها الإفريقي". وبيّن المحلل بركنان أن "التصريحات الصادرة عن المسؤول الحزبي تؤكد أن الدور الإيديولوجي المناصر للحركات التحررية لم يعد هو اللغة التي تتكلم بها إفريقيا، وأنها يجب أن تتكلم لغة الاقتصاد، ولهذا جاءت هذه التصريحات في اتجاه تكثيف العلاقات الاقتصادية والتجارية مع المغرب. غير أن البيان الصادر عن الحزب يذهب إلى تأكيد توجه التيار الغالب في الحزب الذي يكن العداء للمملكة المغربية من باب مناصرة حركة البوليساريو الانفصالية".