«الدولة هي الشكل التاريخي الخاص الذي تكتسب فيه الحرية وجوداً موضوعياً» هيجل زعزعة الاستقرار هو مبعث قلق البلدان التي تصارع من أجل نهوض اقتصادي، ومكمن هذا القلق الهشاشة الاجتماعية المتفاقمة، رغم أرقام النمو المتصاعدة في الناتج الخام. هناك اقتصادات آسيوية فاق ناتجها الخام التريليون، ومع ذلك ما تزال الفئات الهشة بها بالملايين. في النهاية، كل ما قد يبعث على هذا القلق هو في الحقيقة نتاج تقاعس عن إصلاح التعليم وتعزيز البحث العلمي والابتكار في زمن الذكاء. هل يمكن لأي إصلاح سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أن يحقق النتائج المرجوة منه، في ظل صلابة التمركز الإداري العصي عن التفتيت؟ لعبت السياسات المركزية في السابق دوراً في تثبيت نفوذ الدول الخارجة لتوِّها من الاستعمار، ودعمت وحدتها الوطنية، ولكن بعد أن ترسخت أسس الدولة، وانفتح العالم على الفضاء الأزرق، وما استتبع ذلك من توسيع لمفهوم الديمقراطيات التشاركية، صارت المركزية مثبطة للهمم والعزائم، وطاردة لروح المبادرة الخلاقة، وعاملاً في خفض الروح المعنوية لدى كل أولئك البعيدين عن المراكز... غير أن انعتاق البلدان الناهضة من فخ هذا التمركز لا يحتاج إلى إرادة الدولة فقط، بل وحتى تعاون المنتخبين والفاعلين السياسيين، والأهم الإداريين السامين الذين، وبعد عقود طويلة من مركزية القرار، صاروا مفصلين في دواليب الإدارات العمومية، مستفيدين من امتيازاتها، ما قد يجعلهم بشكل علني أو ضمني عائقاً أمام تحقيق اللاتمركز، في وقت صار لزاماً أن تقوم الدولة المعاصرة على هندسة مغايرة للسابق، تصب في اتجاه تفتيت مراكز تسيير الشأن العام، بتوزيع خارطة السلط الإدارية من وظائف واختصاصات بعيداً عن أي تركيز. ذلك أنه، ولمواكبة التحولات العميقة للذكاء الاصطناعي وتوسيع مفهوم التشاركية، تغدو الدول الناهضة ملزمة بابتكار هندسة جديدة تقوم على التقليل من التحكم قصد الانتقال الآني من بنية متمركزة إلى شبكة موزعة بشكل جهوي محكم. بهذا فقط سنتفادى تدهور وظائف ممارسة السلط الإدارية، والتأخر في إنجاز المشاريع الحيوية، والأهم تفتيت أي بؤرة للفساد في حينها قبل أن تتغول، والنتيجة تقديم خدمة عمومية أكثر شفافية وعدلاً.