لقد أتى على الإنسان حينٌ من الدهر يتوهم فيه أن أرضه مركز الأكوان ومحور العوالم، ولم تكن عندهم النجوم والسيارات الكوكبية من فوقها غير مصابيح الأنوار المعلقة على جدران العنان. وذلك لأننا لم ننطلق من النقطة الصحيحة في التبصر في مدى ترامي أطراف الكون ورحابة أحجامه، بحيث ننتهي إلى أن الأرض التي في مهدها استوطنت الحضارات الإنسانية برمتها لم تكن سوى حبة رمل في فلاة الأفلاك العلوية. وما إن تمددت جذور علومنا عن الكون حتى أحسسنا بحقارتنا وهواننا قياسًا برحاب الكون السماوي، إذ توصلنا إلى أن الشمس التي حسبناها في غابر الأزمان منارة واحدة من نوعها في عنان السماء، ليست إلا كرة نجمية من بين مليارات النجوم والكواكب والكويكبات والنيازك التي تتركب بها مجرات على مجرات، تتخللها حقول مغناطيسية مروعة، وتبلغ أعدادها قرابة عشرات التريليونات من المجرات العملاقة. وتحكي كل ما فيها من السدم الحلزونية وممرات الغبار الكوني ملاحم سماوية لا تنتهي، بكل ما في القاموس الكوني من الكلمات السحرية. إن هذا الوعي المتنامي بأسرار الكون يعري الإنسان من غطاء أوهامه، ويعرّفه ضآلة قيمته في مقابل المخلوقات السماوية. وتذكره هذه الرؤية الكونية على الدوام بأنه من الذين لم تكن يومًا من شأنهم السيادة بدافع الشموخ على المستوطنات السكنية، والتباهي بالغرور والعنجهية. ولم تعد الأرض التي كانت ذات يوم قمةَ هذا الخلق إلا هباءً منثورًا في سنفونية الكائنات الجوية. ونحن، القاطنين في أدنى الكرات الجوية هذه، المدّعين على كوننا أشرف المخلوقات، لا نتمثل إلا في ذرة غبار تسري على كتلة الأرض، وهي مثلنا ذرة غبار في جنب تلك المشاهد الباهرة من عوالم المخلوقات السماوية. وعمّا إذا كانت هذه المواد الماثلة للعيان، التي تحضن هذه النجوم الشامخة والكواكب السيارة والمجرات المتطايرة الجبارة، تصنع صفحة هذا الفضاء الكوني قاطبة أم لا، فأقول إن هذه المواد لا تمثل غير شريحة ضئيلة بنسبة 5% من إجمالي طاقة وكتلة الكون. وأما البقية الباقية فتتجسد في المادة المظلمة والطاقة المظلمة، اللتين ظلت طبيعتهما وطبائعهما ألغازًا تتفوّق على المدارك الخمسة ولا تتقبلها العقول الإنسانية، مما يترتب عليه قوة سرية ترصّع البُنى التحتية السماوية بكل ما تعجز عن استجلائه الحواس العقلية وتخفق في استيعابه القوى الحسية. ولم نكد نتخلص من طبقات الجهل حتى تنصّلنا مما أغشى بصائرنا من غشاوة الحمق والتيه، حيث أدركنا أن الإنسان هو أحقر من أن يشمخ بأنفه كِبْرًا وتيها، مهما نمت مراتبه أو علت خساسته، لدى هذا الملك الواسع؛ في حين إنه مجرد نسمة في مهب الأزل والأبدية، لا تكاد تدوي في جنبات القاعات الفلكية. حيث إن الجلال هو وحده لله الواحد القهار، الذي بيده ملكوت السماء والأرض، وبعلمه مفاتيح الغيوب والأسرار، والذي يتلاشى بميدائه كل شعور بالكبرياء والعظمة هباءً منبثا.